الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح.مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه.

 بابُ الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح
اعلم أنّا مأمورون بإفشاء السلام كما قدّمناه، لكنه يتأكد في بعض الأحوال ويخفّ في بعضها‏.‏ ونُهي عنه في بعضها، فأما أحوال تأكده واستحبابه فلا تنحصر، فإنها الأصل فلا نتكلف التعرّض لأفرادها‏.‏
واعلم أنه يدخل في ذلك السلام على الأحياء والموتى، وقد قدّمنا في كتاب أذكار الجنائز كيفية السلام على الموتى‏.‏ وأما الأحوال التي يُكره فيها أو يخفّ أو يُباح فهي مستثناة من ذلك فيحتاج إلى بيانها، فمن ذلك إذا كان المسلَّم عليه مشتغلاً بالبول أو الجماع أو نحوهما فيُكره أن يُسلَّم عليه، ولو سلَّم لا يستحقّ جواباً، ومن ذلك من كان نائماً أو ناعساً، ومن ذلك من كان مُصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاةَ، أو كان في حمام أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثر السلام عليه فيها، ومن ذلك إذا كان يأكلُ واللقمة في فمه، فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحقّ جواباً‏.‏ أما إذا كان على الأكل وليست اللقمةُ في فمه فلا بأسَ بالسلام، ويجبُ الجواب‏.‏ وكذلك في حال المبايعة وسائر المعاملات يُسلّم ويجب الجواب‏.‏ وأما السلام في حال خطبة الجمعة فقال أصحابنا‏:‏ يُكره الابتداء به لأنهم مأمورون بالإِنصات للخطبة، فإن خالفَ وسلَّم فهل يُرَدّ عليه‏؟‏ فيه خلاف لأصحابنا، منهم مَن قال‏:‏ لا يُرَدّ عليه لتقصيره، ومنهم مَن قال‏:‏ إن قلنا إن الإِنصاتَ واجبٌ لا يردّ عليه، وإن قلنا إن الإِنصاتَ سنّة رَدَّ عليه واحد من الحاضرين، ولا يردّ عليه أكثر من واحد على كل وجه‏.‏
وأما السَّلامُ على المشتغل بقراءة القرآن، فقال الإِمام أبو الحسن الواحدي‏:‏ الأولى ترك السلام عليه لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلَّم عليه كفاه الردّ بالإِشارة، وإن ردّ باللفظ استأنف الاستعاذة ثم عاد إلى التلاوة، هذا كلام الواحدي، وفيه نظر؛ والظاهر أن يُسلّم عليه ويجب الردّ باللفظ‏.‏ أما إذا كان مشتغلاً بالدعاء مستغرقاً فيه مجمع القلب عليه، فيحتمل أن يُقال هو كالمشتغل بالقراءة على ما ذكرناه، والأظهر عندي في هذا أنه يُكره السلام عليه، لأنه يتنكد به ويشقّ عليه أكثر من مشقة الأكل‏.‏ وأما الملبِّي في الإِحرام فيُكره أن يُسلَّم عليه، لأنه يُكره له قطعُ التلبية، فإن سلَّم عليه ردَّ السلامَ باللفظ، نصّ عليه الشافعي وأصحابنا رحمهم اللّه‏.‏
 فصل‏:‏ قد تقدمت الأحوالُ التي يُكره فيها السلام، وذكرنا أنه لا يستحقّ فيها جواباً فلو أراد المسلَّم عليه أن يتبرع بردّ السلام هل يشرع له، أو يُستحبّ‏؟‏ فيه تفصيل؛ فأما المشتغل بالبول ونحوه فيُكره له ردُّ السلام، وقد قدَّمنا هذا في أول الكتاب؛ وأما الأكل ونحوه فيُستحبّ له الجواب في الموضع الذي لا يجب؛ وأما المصلِّي فيحرم عليه أن يقول‏:‏ وعليكم السلام، فإن فعلَ ذلك بطلتْ صلاتُه إن كان عالماً بتحريمه، وإن كان جاهلاً لم تبطل على أصحّ الوجهين عندنا، وإن قال عليه السلام بلفظ الغَيبة لم تبطل صلاتُه لأنه دعاءٌ ليس بخطاب‏.‏ والمستحبُّ أن يردّ عليه في الصلاة بالإِشارة ولا يتلفظ بشيء، وإن ردّ بعد الفراغ من الصلاة باللفظ فلا بأس‏.‏ وأما المؤذّن فلا يُكره له ردُّ الجواب بلفظه المعتاد، لأن ذلك يسير لا يُبطلُ الأذانَ ولا يُخلّ به‏.‏
 بابُ مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه
اعلم أنَّ الرجلَ المسلمَ الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسَلِّم ويُسَلَّم عليه، فيُسنّ له السلام، ويجب الردّ عليه‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ والمرأةُ مع المرأة كالرجل مع الرجل‏.‏ وأما المرأة مع الرجل؛ فقال الإِمام أبو سعد المتوليّ‏:‏ إن كانت زوجته أو جاريتَه أو محرَماً من محارمه، فهي معه كالرجل، فيستحبّ لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر ردّ السلام عليه؛ وإن كانت أجنبيةً، فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمتْ لم تستحق جواباً فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها؛ وإذا كانت النساء جمعاً فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ ولا عليها أو عليهم فتنة‏.‏
1/623 روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها، عن أسماءَ بنت يزيدَ رضي اللّه عنها قالت‏:‏ مرَّ علينا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذا الذي ذكرته لفظ رواية أبي داود‏.‏ وأما رواية الترمذي ففيها عن أسماء‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم‏.‏ (1)
2/624 وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ‏.‏ ‏(2)
3/625 وروينا في صحيح البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه، قال‏:‏ كانتْ فينا امرأةٌ‏.‏ وفي رواية‏:‏ كانتْ لنا عجوزٌ تأخذُ من أصول السِّلق فتطرحُه في القِدْر وتكركرُ حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا نُسلِّم عليها فتقدمه إلينا‏.‏ (3) قلت‏:‏ تكركر معناه‏:‏ تطحن‏.‏
4/626 وروينا في صحيح مسلم، عن أُمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها قالت‏:‏ أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يومَ الفتح وهو يغتسلُ، وفاطمة تسترُه، فسلَّمتُ‏.‏ وذكرت الحديث‏.‏ (4)
 فصل‏:‏ وأما أهل الذمّة فاختلف أصحابُنا فيهم، فقطعَ الأكثرون بأننه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس هو بحرام، بل هو مكروه، فإن سلَّمُوا هم على مسلم قال في الردّ‏:‏ وعليكم، ولا يزيدُ على هذا‏.‏
وحكى أقضى القضاة الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، لكنْ يقتصرُ المسلِّم على قوله‏:‏ السلام عليك، ولا يذكرُه بلفظ الجمع‏.‏
وحكى الماوردي وجهاً أنه يقول في الردّ عليهم إذا ابتدأوا‏:‏ وعليكم السلام، ولكن لا يقول ورحمة اللَّه، وهذان الوجهان شاذان ومردودان‏.‏
5/627 روينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لاتَبْدأوا اليَهُودَ وَلا النَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذَا لقيتُمْ أحَدَهُمْ في طَريقٍ فاضْطَرُوهُ إلى أضْيَقِهِ‏"‏‏.‏‏(5)
6/628 وروينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتابِ فَقُولُوا‏:‏ وَعَلَيْكُمْ‏"‏‏.‏‏(6)
7/629 وروينا في صحيح البخاري، عن ابن عمرَ رضي اللّه عنهما؛ أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فإنَّمَا يَقُولُ أحَدُهُم‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ‏:‏ وَعَلَيْكَ‏"‏ وفي المسألة أحاديث كثيرة بنحو ما ذكرنا، واللّه أعلم‏.‏
قال أبو سعد المتولي‏:‏ ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلماً فبان كافراً يستحَبّ أن يستردّ سلامَه فيقول له‏:‏ رُدّ عليّ سلامي؛ والغرض من ذلك أن يوحشه ويظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة‏.‏ ورُوي أن ابن عمر رضي اللّه عنهما سلَّم على رجلٍ، فقيل إنه يهودي، فتبعه وقال له‏:‏ ردّ عليّ سلامي(7)
قلت‏:‏ وقد روينا في موطأ مالك ‏(8)‏ رحمه اللّه أن مالكاً سُئل عمّن سلَّم على اليهوديّ أو النصراني هل يستقيله ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فهذا مذهبُه‏.‏ واختاره ابن العربي المالكي‏.‏
قال أبو سعد‏:‏ لو أراد تحية ذميّ فعلَها بغير السلام بأن يقول‏:‏ هداك اللّه، أو أنعم اللّه صباحك‏.‏ قلت‏:‏ هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول‏:‏ صُبِّحْتَ بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبَّحَك اللّه بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك‏.‏ وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودّ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره، واللّه أعلم‏.‏
 فرع ‏:‏ إذا مرّ واحدٌ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفّار، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم‏.‏
8/630 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أُسامةَ بن زيد رضي اللّه عنهما؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ (9)
 فرع ‏:‏ إذا كتب كتاباً إلى مشرك وكتبَ فيه سلاماً أو نحوَه فينبغي أن يكتب‏:‏
9/631 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في حديث أبي سفيان رضي اللّه عنه في قصة هرقل‏:‏
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتبَ‏:‏ ‏"‏من محمدٍ عبدِ اللّه ورسولِه، إلى هرقلَ عظيمِ الرومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدى‏"‏‏.‏‏(10)
 فرع ‏:‏ فيما يقولُ إذا عَادَ ذَميّاً‏.‏ اعلم أن أصحابنا اختلفوا في عيادة الذميّ، فاستحبَّها جماعة ومنعها جماعة؛ وذكر الشاشي الاختلاف ثم قال‏:‏ الصوابُ عندي أن يُقال‏:‏ عيادة الكافر في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة، قلت‏:‏ هذا الذي ذكره الشاشيُّ حسن‏.‏
10/632 فقد روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فمرضَ، فأتاه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم يعودُه، فقعدَ عند رأسه، فقال له‏:‏ ‏"‏أسْلِمْ‏"‏ فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال‏:‏ أطعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرجَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ‏"‏‏.‏(11)
11/633 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن المسيِّب بن حَزْن والد سعيد بن المسيِّب رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا عَمّ‏!‏ قُلْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ‏"‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏ (12)
قلتُ‏:‏ فينبغي لعائد الذميّ أن يرغّبه في الإِسلام، ويبيِّن له محاسنَه، ويحثَّه عليه، ويحرّضه على معاجلته قبل أن يصيرَ إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها‏.‏
فصل‏:‏ وأما المبتدعُ وَمَنْ اقترف ذنباً عظيماً ولم يَتُبْ منه، فينبغي أن لا يسلِّم عليهم ولا يردّ عليهم السلام، كذا قاله البخاري وغيره من العلماء‏.‏ واحتجّ الإمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه في هذه المسألة‏:‏
12/634 بما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في قصة كعب بن مالك رضي اللّه عنه حين تخلَّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له، فقال‏:‏ ونهى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا، قال‏:‏ وكنتُ آتي رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقولُ‏:‏ هل حرّكَ شَفتيه بردّ السلام أم لاقال البخاري‏:‏ وقال عبدُ اللّه بن عمرو‏:‏ لا تسلِّموا على شَرَبَة الخمر‏.‏ (13)‏ قلتُ‏:‏ فإن اضّطُر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم، سلّم عليهم‏.‏ قال الإِمام أبو بكر بن العربي‏:‏ قال العلماء‏:‏ يسلِّم، وينوي أن السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، المعنى‏:‏ اللّه عليكم رقيب‏.‏
 فصل‏:‏ وأما الصبيان فالسنّة أن يسلِّم عليهم‏.‏
13/635 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه‏,‏ أنه مرّ على صبيانٍ فسَّلمَ عليهم وقال‏:‏ كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يفعله‏.‏ وفي رواية لمسلم عنه‏:‏ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم‏.‏ ‏(14)
14/636 وروينا في سنن أبي داود وغيره، بإسناد الصحيحين، عن أنس، أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غلمانٍ يَلعبون فسلَّم عليهم ورويناهُ في كتاب ابن السنيّ وغيره، قال فيه فقال‏:‏ ‏"‏السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا صِبْيانُ‏"‏‏.‏(15)
 بابٌ في آدابٍ ومسائلَ من السَّلام
1/637 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على المَاشِي، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكثير‏"‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكَثِيرِ‏"‏‏.‏‏(16)
قال أصحابُنا وغيرُهم من العلماء‏:‏ هذا المذكور هو السنّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب، أو الجالس عليهما لم يُكره، صرّح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يُكره‏.‏ ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكونُ هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه، وهذا الأدبُ هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا وَرَدَ على قعود أو قاعد؛ فإن الواردَ يبدأُ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمَّى أقضى القضاة هذا الثاني سنّة، وسمّى الأوّل أدباً وجعلَه دون السنّة في الفضيلة‏.‏
 فصل‏:‏ قال المتولي‏:‏ إذا لقي رجلٌ جماعةً فأراد أن يخصّ طائفة منهم بالسلام كره، لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين، وربما صار سبباً للعداوة‏.‏
 فصل‏:‏ إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فقد ذكرَ أقضى القضاة الماورديّ أن السلام هنا إنما يكونُ لبعض الناس دون بعض‏.‏ قال‏:‏ لأنه لو سلَّم على كلّ مَن لقي لتشاغل به عن كل مهمّ، ولخرج به عن العُرْف‏.‏ قال‏:‏ وإنما يُقصد بهذا السلام أحدُ أمرين‏:‏ إما اكتساب ودّ، وإما استدفاع مكروه‏.‏
 فصل‏:‏ قال المتولّي‏:‏ إذا سلَّمتْ جماعةٌ على رجل فقال‏:‏ وعليكم السلام، وقصد الردّ على جميعهم سقط عنه فرضُ الردّ في حقّ جميعهم، كما لو صلَّى على جنائزَ دفعةً واحدةً فإنه يُسقط فرضَ الصلاة على الجميع‏.‏
 فصل‏:‏ قال الماوردي‏:‏ إذا دخل إنسانٌ على جماعة قليلة يعمُّهم سلامٌ واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يردّ منهم واحدٌ، فمن زاد منهم فهو أدب‏.‏ قال‏:‏ فإن كان جمعاً لا ينتشرُ فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل؛ فسنّة السلام أن يبتدىء به الداخل في أوّل دخوله إذا شاهدَ القومَ ويكون مؤدياً سنّة السلام في حقّ جميع مَن سمعه، ويدخلُ في فرض كفاية الردّ جميعُ مَن سمعه، فإن أرادَ الجلوس فيهم سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدَهم ممّن لم يسمع سلامه المتقدّم ففيه وجهان لأصحابنا‏:‏ أحدُهما أن سنّة السلام عليهم قد حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان أدَباً، وعلى هذا أيُّ أهل المسجد ردّ عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم‏.‏ والوجه الثاني أن سنّة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض ردّ السلام المتقدم عن الأوائل بردّ الأواخر‏.‏
 فصل‏:‏ ويستحبّ إذا دخل بيته أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ‏.‏ وقد قدَّمنا ‏(17)‏ في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته‏.‏ وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يُستحبّ أن يُسلِّم وأن يقول‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ‏.‏
 فصل‏:‏ إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم‏.‏
2/638 فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الجيدة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فإذَا أَرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولى بأحَقّ مِنَ الآخِرَةِ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(18)
قلت‏:‏ ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة ردّ السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإِمامان‏:‏ القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي‏:‏ جرتْ عادةُ بعض الناس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاءٌ يُستحبّ جوابه ولا يجب؛ لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامُهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي - الأخير من أصحابنا - وقال‏:‏ هذا فاسد، لأن السَّلامَ سنّةٌ عند الانصراف كما هو سنّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب‏.‏
 فصل‏:‏ إذا مرّ على واحد أو أكثر وغلبَ على ظنه أنه إذا سلَّم لا يردّ عليه، إما لتكبّر الممرور عليه، وإما لإِهماله المارّ أو السلام، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يُسلِّم ولا يتركه لهذا الظنّ، فإنّ السلامَ مأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارّ أن يُسلّم ولم يؤمر بأن يحصل الردّ مع أن الممرور عليه قد يُخطىء الظنّ فيه ويردّ‏.‏ وأما قول مَن لا تحقيق عنده‏:‏ إن سلامَ المارّ سبب لحصول الإِثم في حقّ الممرور عليه فهو جهالة ظاهرة وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على مَن فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه وتعريفنا له قبحه يكون سبباً لإِثمه إذا لم يقلع عنه، ولا شكّ في أنُّا لا نترك الإِنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، واللّه أعلم‏.‏
ويُستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجّه عليه الردّ بشروطه فلم يرد؛ أن يحلِّله من ذلك فيقول‏؟‏ أبرأته من حقّي في ردّ السلام، أو جعلتُه في حِلٍّ منه ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حقّ هذا الآدمي، واللّه أعلم‏.‏
3/639 وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال‏:‏
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَيْسَ مِنَّا‏"‏‏.‏
ويُستحبّ لمن سلَّم على إنسان فلم يرد عليه أن يقول له بعبارة لطيفة‏:‏ ردُّ السلام واجبٌ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقطَ عنك الفرضُ، واللّه أعلم‏.‏
باب الاستئذان
1/640 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ‏"‏‏.
ورويناه في الصحيحين أيضاً، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه وغيره، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ (19)
2/641 وروينا في صحيحيهما، عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ‏"‏‏.
وروينا الاستئذان ثلاثاً من جهات كثيرة‏.‏ والسنّة أن يُسلِّم ثم يستأذن فيقوم عند الباب بحيث لا ينظرُ إلى مَن في داخله، ثم يقول‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ فإن لم يجبْه أحدٌ قال ذلك ثانياً وثالثاً، فإن لم يجبْه أحدٌ انصرف‏.‏ (20)
3/642 وروينا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح، عن ربعيّ بن حِراش، بكسر الحاء المهملة وآخره شين معجمة، التابعي الجليل، قال‏:‏ حدّثنا رجل من بني عامر استأذن على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو في بيت، فقال‏:‏ أألجُ‏؟‏ فقالَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخادمه‏:‏ ‏"‏اخْرُجْ إلى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ‏؟‏‏"‏ فسمعه الرجلُ فقال‏:‏ السلام عليكم، أأدخلُ‏؟‏ فأذنَ له النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فدخلَ‏.‏ (21)
4/643 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، عن كَلَدَة بن الحَنْبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال‏:‏ أتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فدخلتُ عليه ولم أسلِّم، فقالَ النبيُّ‏:‏ ‏"‏ارْجِعْ فَقُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ‏؟‏‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (22)‏‏)‏قلت‏:‏ كَلَدة بفتح الكاف واللام‏.‏ والحَنْبل بفتح الحاء المهملة وبعدها نون ساكنة ثم باء موحدة ثم لام‏.‏
وهذا الذي ذكرناه من تقديم السلام على الاستئذان هو الصحيح‏.‏ وذكر الماوردي فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها هذا‏.‏ والثاني تقديم الاستئذان على السلام، والثالث وهو اختياره، إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدَّم السلام، وإن لم تقع عليه عينه قدَّم الاستئذان‏.‏ وإذا استأذن ثلاثاً فلم يُؤذن له وظنَّ أنه لم يسمع فهل يزيدُ عليها‏؟‏ حكى الإِمام أبو بكر بن العربيّ المالكي فيه ثلاثة مذاهب‏:‏ أحدُها يعيده‏.‏ والثاني لا يعيده‏.‏ والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعدْه، وإن كان بغيره أعاده؛ قال‏:‏ والأصحُّ أنه لا يعيدُه بحال، وهذا الذي صحَّحه هو الذي تقتضيه السنّة، واللّه أعلم‏.‏
 فصل‏:‏ وينبغي إذا استأذن على إنسان بالسلام أو بدقّ الباب فقيل له‏:‏ مَنْ أنتَ‏؟‏ أن يقول‏:‏ فلانُ بن فلان، أو فلانٌ الفلاني، أو فلانٌ المعروف بكذا، أو ما أشبه ذلك، بحيث يحصل التعريف التامّ به، ويُكره أن يقتصر على قوله أنا، أو الخادم، أو بعض الغلمان، أو بعض المحبّين، وما أشبه ذلك‏.‏
5/644 روينا في صحيحي البخاري ومسلم في حديث الإِسراء المشهور، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثُمَّ صَعِدَ بي جِبْرِيلُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جِبْرِيلُ، قيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءِ الثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ وَسائِرِهنَّ، وَيُقالُ في بابِ كُلِّ سمَاءٍ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ جبْرِيلُ‏"‏‏.‏(23)
6/645 وروينا في صحيحيهما، حديثَ أبي موسى لما جلسَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم على بئر البستان؛ جاء أبو بكر فاستأذن، فقال‏:‏ مَنْ‏؟‏ قال‏:‏ أبو بكر، ثم جاء عمر فاستأذن، فقال‏:‏ مَن‏؟‏ قال‏:‏ عمر، ثم عثمان كذلك‏.‏ (24)
7/646 وروينا في صحيحيهما أيضاً، عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فدققتُ البابَ، فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ ذَا‏؟‏ فَقلتُ‏:‏ أنا، فقال‏:‏ أنَا أنَا‏"‏ كأنه كرهها‏.‏ (25)
 فصل‏:‏ ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف إذا لم يعرفه المخاطب بغيره، وإن كان فيه صورة تبجيل له بأن يكنّي نفسه، أو يقول أنا المفتي فلان، أو القاضي، أو الشيخ فلان، أو ما أشبه ذلك‏.‏
8/647 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها، واسمها فاختة على المشهور، وقيل فاطمة، وقيل هند، قالت‏:‏ أتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمةُ تستُره، فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذِهِ‏؟‏‏"‏ فقلتُ‏:‏ أنا أُمّ هانىء‏.‏ (26)
9/648 وروينا في صحيحيهما، عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه، واسمه جُندب، وقيل بُرَيْرٌ بضمّ الباء تصغير برّ، قال‏:‏ خرجتُ ليلةً من الليالي فإذا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشي وحدَه، فجعلتُ أمشي في ظلّ القمر، فالتفتَ فرآني فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ أبو ذرّ‏.‏ ‏(27)
10/649 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي قتادة الحارث بن رِبعي رضي اللّه عنه في حديث الميضأة المشتمل على معجزات كثيرة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى جمل من فنون العلوم، قال فيه أبو قتادة‏:‏ فرفع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم رأسه فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏"‏‏(28)‏ قلت‏:‏ أبو قتادة‏.‏ قلت‏:‏ ونظائر هذا كثيرة، وسببه الحاجة، وعدم إرادة الافتخار‏.‏
ويقرب من هذا‏:‏
11/650 ما رويناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، واسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصحّ، قال‏:‏
قلتُ‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ ادعُ اللّه أن يهديَ أُمّ أبي هريرة‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديثَ إلى أن قال فرجعتُ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ قد استجاب اللّه دعوتك وهدى أُمّ أبي هريرة‏.‏ (29)
اقرأ بعده..........
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق