كتاب أذكار الحجّ
اعلم أن أذكار الحجّ ودعواته كثيرة لا تنحصر، ولكن
نُشير إلى المهمّ من مقاصدها. والأذكار التي فيه على ضربين: أذكار في
سفره، وأذكار في نفس الحجّ. فأما التي في سفره فنؤخرها لنذكرَها في أذكار
الأسفار- إن شاء اللّه تعالى- وأما التي في نفس الحج فنذكرُها على ترتيب
عمل الحجّ إن شاء اللّه تعالى، وأحذفُ الأدلة والأحاديث في أكثرها خوفاً من
طول الكتاب، وحصول السآمة على مُطالِعِهِ، فإن هذا البابَ طويلٌ جداً،
فلهذا أسلُك فيه الاختصار إن شاء اللّه تعالى.
فأول ذلك: إذا أراد الإِحرام اغتسل وتوضأ ولبس إزاره ورداءه (1)
، وقد قدَّمنا ما يقوله المتوضىء والمغتسل، وما يقول إذا لبس الثوب ثم
يُصلِّي ركعتين، وتقدمت أذكار الصلاة، ويُستحبّ أن يقرأ في الركعة الأولى
بعد الفاتحة {قُلْ يا أيُّهَا الكافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ}
فإذا فرغ من الصلاة استحبّ أن يدعوَ بما شاء، وتقدَّم ذكرُ جُملٍ من
الدعواتِ والأذكار خلفَ الصلاة، فإذا أراد الإِحرام نواه بقلبه.
ويُستحبُّ أن يساعدَ بلسانه قلبه، فيقول: نويتُ الحجَّ وأحرمتُ به للّه
عزّوجلّ، لبّيك اللَّهمَّ لبّيك إلى آخر التلبية. والواجب نيّة القلب
واللفظ سنّة، فلو اقتصر على القلب أجزأه، ولو اقتصر على اللسان لم يجزئه.
قال الإِمام أبو الفتح سُليم بن أيوب الرازي: لو
قال يعني بعد هذا: اللَّهمّ لك أحرم نفسي وشعري وبشري ولحمي ودمي كان
حسناً. وقال غيره: يقول أيضاً: اللهمّ إني نويت الحجّ فأعنّي عليه
وتقبله مني، ويلبّي فيقول: لبيكَ اللَّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك
لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك لا شريك لك. هذه تلبية رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم، ويُستحبّ أن يقولَ في أوّل تلبية يلبّيها: لبّيك
اللَّهمّ بحجة إن كان أحرم بحجة، أو لبّيك بعمرة إن كان أحرم بها، ولا
يُعيد ذكرَ الحجّ والعمرة فيما يأتي بعد ذلك من التلبية على المذهب الصحيح
المختار.
واعلم أن التلبيةَ سنّةٌ لو تركها صحّ حجّه وعمرتُه
ولا شيء عليه، لكن فاتته الفضيلةُ العظيمة والاقتداء برسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم، هذا هو الصحيح من مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، وقد أوجبها
بعضُ أصحابنا، واشترطَها لصحة الحجّ بعضُهم، والصوابُ الأوّل، لكنْ تُستحبّ
المحافظة عليها للاقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وللخروج من
الخلاف، واللَّهُ أعلم.
وإذا أحرم عن غيره قال: نويتُ الحجَّ وأحرمتُ به
للّه تعالى عن فلان، لبّيك اللَّهمّ عن فلان إلى آخر ما يقوله مَن يُحرم عن
نفسه.
فصل: ويُستحبّ أن يصلِّي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد التلبية،
وأن يدعوَ لنفسه ولمن أراد بأمور الآخرة والدنيا، ويسألُ اللّه تعالى
رضوانَه والجنّة، ويستعيذُ به من النار، ويُستحبّ الإِكثار من التلبية،
ويستحبّ ذلك في كلّ حال: قائِماً، وقاعداً، وماشياً، وراكباً، ومضطجعاً،
ونازلاً، وسائراً، ومُحْدِثاً، وجُنباً، وحائضاً، وعند تجدّد الأحوال
وتغايرها زماناً ومكاناً وغير ذلك، كإقبال الليل والنهار، وعند الأسحار،
واجتماع الرِّفاق، وعند القيام والقعود، والصعود والهبوط، والركوب والنزول،
وأدبار الصَّلواتِ، وفي المساجد كلِّها، والأصحُّ أنه لا يُلبّي في حال
الطواف والسعي، لأن لهما أذكاراً مخصوصة.
ويُستحبّ أن يرفعَ صوتَه بالتلبية بحيث لا يشقّ عليه،
وليس للمرأة رفع الصوت، لأن صوتَها يُخاف الافتتان به. ويُستحبّ أن
يُكرِّر التلبية كل مرّة ثلاث مرات فأكثر، ويأتي بها متوالية لا يقطعها
بكلام ولا غيره. وإن سلَّم عليه إنسانٌ ردّ السلام، ويُكره السلام عليه
في هذه الحالة، وإذا رأى شيئاً فأعجبه قال: لبّيك إن العيشَ عيشُ
الآخرة. اقتداءً برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
واعلم أن التلبية لا تزالُ مستحبةً حتى يرميَ جمرة
العقبة يومَ النحر أو يطوفَ طوافَ الإِفاضة إن قدّمه عليها، فإذا بدأ بواحد
منهما قطعَ التلبية مع أول شروعه فيه واشتغلَ بالتكبير. قال الإِمام
الشافعي رحمه اللّه: ويُلبّي المعتمرُ حتى يَستلم الركن.
فصل:
إذا وصل المحرمُ إلى حرم مكة - زاده اللّه شرفاً- استحبَّ له أن يقولَ:
اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُكَ وأمْنُكَ فَحَرِّمنِي على النارِ، وأمِّنّي مِن
عَذَابِكَ يَومَ تَبْعَثُ عِبادَكَ، وَاجْعَلْنِي مِن أولِيائِك وَأهْلِ
طَاعَتِكَ، ويدعو بما أحبّ.
فصل:
فإذا دخل مكة ووقع بصرُه على الكعبة ووصلَ المسجدَ استحبّ له أن يرفع يديه
ويدعو؛ فقد جاء أنه يُستجاب دعاءُ المسلم عند رؤيته الكعبة ويقول:
اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا البَيْتَ تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً
وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِن شَرَّفَهُ وكَرمَهُ مِمَّنْ حَجَّه أو اعْتَمَرَه
تَشْرِيفاً وَتَكْرِيماً وَتَعْظِيماً وَبِرّاً، ويقول: اللَّهُمَّ أنْتَ
السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلامِ، ثم يدعو بما
شاء من خيرات الآخرة والدنيا، ويقول عند دخول المسجد ما قدّمناه في أوّل
الكتاب في جميع المساجد.
فصل: في أذكار الطواف:
يُستحبّ أن يقول عند استلام الحجر الأسود أولاً، وعند ابتداء الطواف
أيضاً: بِسمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ إيمَاناً بِكَ
وَتَصدِيقاً بِكِتابِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّباعاً لِسُنَّةِ
نَبِيِّكَ صلى اللّه عليه وسلم. ويُستحبّ أن يكرِّر هذا الذكر عند محاذاة
الحجر الأسود في كل طوفة، ويقولُ في رمله في الأشواط الثلاثة
"اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجّاً مَبْرُوراً (2)
، وذنْباً مَغْفُوراً، وَسَعْياً مَشْكُوراً". ويقول في الأربعة
الباقية: "اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ
وَأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَم، اللَّهُمَّ رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حَسَنَةً
وفي الآخِرة حَسَنةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ".
قال الشافعي رحمه اللّه: أحبُّ ما يُقال في
الطواف: اللَّهُمَّ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً إلى آخره،
قال: وأُحِبُّ أن يُقال في كله، ويُستحبّ أن يدعوَ فيما بين طوافه بما
أحبّ من دين ودنيا، ولو دعا واحد وأمَّن جماعةٌ فحسن.
وحُكي عن الحسن رحمه اللّه أن الدعاء يُستجاب هنالك
في خمسة عشر موضعاً: في الطواف، وعند الملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت،
وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي المسعى، وخلف المقام، وفي عرفات، وفي
المزدلفة، وفي منى، وعند الجمرات الثلاث، فمحروم مَن لا يَجتهد في الدعاء
فيها.
ومذهب الشافعي وجماهيرُ أصحابه أنه يُستحبّ قراءةُ
القرآن في الطواف لأنه موضعُ ذكر. وأفضلُ الذكر قراءةُ القرآن. واختار
أبو عبد اللّه الحليمي من كبار أصحاب الشافعي أنه لا يُستحبّ قراءة القرآن
فيه، والصحيحُ هو الأول. قال أصحابُنا: والقراءةُ أفضلُ من الدعوات غير
المأثورة، وأما المأثورةُ فهي أفضل من القراءة على الصحيح.
وقيل: القراءة أفضل منها. قال الشيخ أبو محمد
الجويني رحمه اللّه: يُستحبّ أن يقرأ في أيام الموسم ختمةً في طوافه
فيعظُم أجرُها (3) ، واللّه أعلم.
ويُستحبّ إذا فرغَ من الطواف ومن صلاة ركعتي الطواف
أن يدعوَ بما أحبّ، ومن الدعاء المنقول فيه: "اللَّهُمَّ أَنَا
عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكِ أتَيْتُكَ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ (4) وأعْمالٍ سَيِّئَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ العائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، فاغْفِرْ لي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ".
فصل: في الدعاء في الملتزم، وهو ما بين الكعبة والحجر الأسود. وقد قدَّمْنَا أنه يُستجاب فيه الدعاء.
ومن الدعوات المأثورة: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ
حَمْداً يُوَافِي نِعَمَكَ، وَيُكافِىءُ مَزِيدَكَ، أحْمَدُكَ بِجَمِيعِ
مَحَامِدِكَ ما عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ على جَمِيعِ نِعَمِكَ
ما عَلِمْتُ مِنْها وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَعَلى كُلّ حالٍ؛ اللَّهُمَّ
صَلِّ وَسَلِّمْ على مُحَمََّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ؛ اللَّهُمَّ أعِذنِي
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، وأَعِذْني مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَقَنِّعْنِي
بِمَا رَزَقْتَنِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ
أَكْرَمِ وَفْدِكَ عَلَيْكَ، وألْزِمْنِي سَبِيلَ الاسْتِقَامَةِ حتَّى
ألْقاكَ يا رَبَّ العالَمِينَ!" (5) ثمّ يدعو بما أحب.
فصل: في الدعاء في الحِجْر، بكسر الحاء وإسكان الجيم، وهو محسوب من البيت. وقد قدّمنا أنه يُستجاب الدعاءُ فيه.
ومن الدعاء المأثور (6)
فيه: "يا رَبّ أتَيْتُكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ مُؤَمِّلاً
مَعْرُوفَكَ فَأنِلْنِي مَعْرُوفاً مِنْ مَعْرُوفِكَ تُغْنِينِي بِهِ عَنْ
مَعْرُوفِ مَنْ سِوَاكَ يا مَعْرُوفاً بالمَعْرُوفِ".
1/488 وروينا في كتاب النسائي، عن
أُسامةَ بن زيد رضي اللّه عنهما؛أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما
دخلَ البيتَ أتى ما استقبلَ من دُبر الكعبة فوضعَ وجهَه وخدّه عليه،
وحمِدَ اللّه تعالى وأثنى عليه وسألَه واستغفرَه، ثم انصرفَ إلى كلِّ ركنٍ
من أركانِ الكعبةِ، فاستقبلَه بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على
اللّه عزّوجلّ والمسألة والاستغفار، ثم خرجَ. (7)
فصل: في أذكار السعي،
وقد تقدَّم أنه يُستجاب الدعاءُ فيه، والسُّنّة أن يُطيل القيام على الصفا
ويستقبل الكعبة فيُكبّر ويدعو فيقول: "اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ
أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ، اللَّهُ أكْبَرُ على ما
هَدَانا، والحَمْدُ لِلَّه على ما أولانا، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ
بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلهَ إِلاَّ
اللَّهُ أنجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ
وَحْدَهُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا نَعْبُدُ إِلاَّ إيَّاهُ،
مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون؛ اللَّهُمَّ إِنَّكَ
قُلْتَ: ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ، وَإِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ،
وإنِّي أسألُكَ كما هَدَيْتِني لِلإِسْلامِ أنْ لا تَنْزِعَهُ مِنِّي حتَّى
تَتَوَفَّاني وأنَا مُسْلِمٌ".
ثم يدعو بخيرات الدنيا والآخرة، ويكرّر هذا الذكر
والدعاء ثلاثَ مرّات، ولا يُلبّي؛ وإذا وصل إلى المروة رَقَى عليها وقال
الأذكار والدعواتِ التي قالها على الصفا.
وروينا (8) ، عن
ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه كان يقول على الصفا: اللَّهُمَّ اجْعَلْنا
نُحِبُّكَ، ونُحِبُّ مَلائِكَتَكَ وأنْبِياءَكَ وَرُسُلَكَ، وَنُحِبُّ
عِبادَكَ الصَّالِحِينَ؛ اللَّهُمَّ حَبِّبْنا إلَيْكَ وَإلى مَلائِكَتِكَ
وإلَى أنْبِيائِكَ وَرُسُلِكَ وإلى عِبادِكَ الصَّالِحِينَ؛ اللَّهُمَّ
يَسِّرْنا لليُسْرَى، وَجَنِّبْنا العُسْرَى، واغْفِرْ لَنا في الآخِرَةِ
والأولى، وَاجْعَلْنا مِنْ أئمَّةِ المُتَّقِينَ".
ويقول في ذهابه ورجوعه بين الصفا والمروة: رَبّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتجاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّكَ أنْتَ الأعَزُّ
الأكْرَمُ؛ اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ومن الأدعية المختارة في السعي وفي كل مكان: اللَّهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ (9)
ثَبِّتْ قَلْبِي على دينِكَ (10)
، اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ
مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَالفَوْزَ بالجَنَّةِ،
وَالنَّجاةَ مِنَ النَّارِ؛ اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدَى والتُّقَى
والعَفَافَ وَالغِنَى؛ اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ
وَحُسْنِ عِبَادَتِك؛ اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ ما
عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ أَعْلَمْ وأعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرّ كُلِّهِ ما
عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أعْلَمْ، وأسألُكَ الجَنَّةَ وَما قرَّب
إِلَيْها مِنْ قَوْل أوْ عَمَلٍ (11)
، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْها مِننْ قَوْلٍ أوْ
عَمَلٍ. ولو قرأ القرآن كان أفضل. وينبغي أن يجمع بين هذه الأذكار
والدعوات والقرآن، فإن أراد الاقتصار أتى بالمهمّ.
فصل: في الأذكار التي يقولها في خروجه من مكة إلى عرفات.
يُستحبّ إذا خرجَ من مكة متوجهاً إلى مِنىً أن يقول: اللَّهُمَّ إيَّاكَ
أرْجُو، وَلَكَ أدْعُو، فَبَلِّغْنِي صَالِحَ أمَلِي، واغْفِرْ لِي
ذُنُوبِي، وَامْنُنْ عَليَّ بِما مَنَنْتَ بِهِ على أهْلِ طاعَتِكَ إنَّكَ
على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (12).
وإذا سار من مِنىً إلى عَرَفَةَ استُحِبَّ أن يقول: اللَّهُمَّ إلَيْكَ
تَوَجَّهتُ، وَوَجْهَكَ الكَرِيمَ أرَدْتُ، فاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورَاً،
وَحَجِّي مَبْرُوراً، وارْحَمْنِي وَلاَ تُخَيِّبْني إنَّكَ على كلّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ . ويُلَبِّي ويقرأ القرآن، ويُكثر من سائر الأذكار والدعوات،
ومن قوله: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ.
قد قدَّمنا في أذكار العيد حديث (13) النبيّ صلى اللّه عليه وسلم "خَيْرُ
الدُّعاءِ يَوْمَ عَرَفَة، وَخَيْرُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فيُستحبّ الإِكثارُ من هذا الذكر والدعاء، ويَجتهدُ في ذلك، فهذا اليوم أفضلُ أيام السنة للدعاء، وهو مُعظم الحج (14)
، ومقصودُه والمعوّل عليه، فينبغي أن يستفرغَ الإِنسانُ وُسعَه في الذكر
والدعاء وفي قراءة القرآن، وأن يدعوَ بأنواع الأدعية، ويأتي بأنواع
الأذكار، ويدعو لنفسه ويذكر في كلّ مكان، ويدعو منفرداً ومع جماعة، ويدعو
لنفسه ووالديه وأقاربه ومشايخه وأصحابه وأصدقائه وأحبابه، وسائر مَن أحسن
إليه وجميع المسلمين. وليحذر كلَّ الحذرِ من التقصير في ذلك كله، فإن هذا
اليوم لا يمكن تداركه، بخلاف غيره. ولا يتكلَّفُ السجعَ في الدعاء،
فإنّه يُشغل القلبَ ويُذهبُ الانكسار والخضوعَ والافتقار والمسكنة والذلّة
والخشوع، ولا بأس بأن يدعو بدعواتٍ محفوظة معه له أو غيره مسجوعة إذا لم
يشتغل بتكلّف ترتيبها ومراعاة إعرابها.
والسُّنّة أن يخفضَ صوته بالدعاء، ويكثر من الاستغفار
والتلفّظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الاعتقاد بالقلب ويلحّ في الدعاء
ويكرّره، ولا يستبطىء الإِجابة، ويفتح دعاءه ويختمه بالحمد للّه تعالى
والثناء عليه سبحانه وتعالى، والصلاة والتسليم على رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم، وليختمه بذلك وليحرص على أن يكون مستقبلَ الكعبة وعلى طهارة.
2/489 وروينا في كتاب الترمذي، عن
عليّ رضي اللّه عنه قال:أكثرُ دعاءِ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم
عَرَفة في الموقف: "اللَّهُمَّ لَكَ الحمدُ كالذي نقولُ، وخيراً مما
نقولُ؛ اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيايَ وَمَمَاتِي،
وإلَيْكَ مآلِي، وَلَكَ رَبِّ تُرَاثي؛ اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ
عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ؛ اللَّهُمَّ
إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ ما تجيءُ بهِ الرّيحُ".(15)
ويُستحبّ الإِكثار من التلبية فيما بين ذلك، ومن
الصَّلاة والسلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأن يُكثِرَ من
البكاء مع الذكر والدعاء، فهنالك تُسكبُ العَبَرات، وتُستقال العثرات،
وترتجى الطلبات، وإنه لموقفٌ عظيم ومَجمع جليل، يجتمعُ فيه خيار عباد اللّه
المخلصين، وهو أعظم مجامع الدنيا.
ومن الأدعية المختارة (16) : "اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ".
"اللَّهُمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً
كَثِيراً، وإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، فاغْفرْ لي
مَغْفِرَةً مِنْ عندِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ".
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَغْفِرَةً تُصْلِحْ بِها
شأني فِي الدَّارَيْنِ، وارْحَمْنِي رَحْمَةً أسْعَدُ بِهَا في
الدَّارَيْنِ، وَتُبْ عليَّ تَوْبَةً نَصُوحاً لا أنْكُثُها أبَداً،
وألْزِمْنِي الاسْتِقَامَةِ لا أَزيغُ عَنْها أبَداً".
"اللَّهُمَّ انْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ المَعْصِيَةِ
إلى عِزَّ الطَّاعَةِ، وأغْنِنِي بحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطاعَتِكَ
عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ".
"وَنَوِّرْ قَلْبِي وَقَبْرِي وأعِذْنِي مِنَ الشَّرَّ كُلِّهِ، واجْمَعْ لي الخَيْرَ كُلَّهُ".
قد تقدم أنه يُستحبّ الإِكثارُ من التلبية في كل موطن، وهذا من آكدها. ويُكثر من قراءة القرآن ومن الدعاء، ويُستحبّ أن يقول (17) : لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، ويُكرِّر ذلك.
ويقول (18)
: إِلَيْكَ اللَّهُمَّ أرْغَبُ، وإيَّاكَ أرْجُو، فَتَقَبَّلْ نُسُكِي
وَوَفِّقْنِي وارْزُقْنِي فيهِ مِنَ الخَيْرِ أكْثَرَ ما أطْلُبُ، وَلا
تُخَيِّبْني إنَّكَ أنْتَ اللَّهُ الجَوَادُ الكَرِيمُ.
وهذه الليلة هي ليلة العيد، وقد تقدَّمَ في أذكار
العيد بيان فضل إحيائها بالذكر والصلاة، وقد انضمّ إلى شرف الليلة شرفُ
المكان، وكونُه في الحرم والإِحرام، ومَجمعُ الحجيج، وعقيب هذه العبادة
العظيمة، وتلك الدعوات الكريمة في ذلك الموطن الشريف.
فصل: في الأذكار المستحبة في المزدلفة والمشعر الحرام. قال اللّه تعالى: {فإذَا أفَضْتُمْ (19) مِنْ عَرَفَاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ (20) عنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ (21)
واذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّين} [البقرة:198] فيُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء في
المزدلفة في ليلته، ومن الأذكار والتلبية وقراءة القرآن فإنها ليلة
عظيمة. كما قدَّمناه في الفصل الذي قبل هذا.
ومن الدعاء المذكور فيها: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ
أنْ تَرْزُقَنِي في هَذَا المَكانِ جَوامِعَ الخَيْرِ كُلِّهِ، وأنْ
تُصْلِحَ شأنِي كُلَّهُ، وأنْ تَصْرِفَ عَنِّي الشَّرَّ كُلَّهُ، فإنَّه
لاَ يَفْعَلُ ذلكَ غَيْرُكَ، وَلاَ يَجُودُ بِهِ إِلاَّ أنْتَ (22).
وإذا صلَّى الصبحَ في هذا اليوم صلاَّها في أوّل
وقتها، وبالغَ في تبكيرها، ثم يسيرُ إلى المشعر الحرام، وهو جبل صغير في
آخر المزدلفة يُسمَّى "قُزَح" بضم القاف وفتح الزاي، فإن أمكنه صعودُه
صَعَدَه، وإلا وقف تحتَه مستقبلَ الكعبة، فيَحمد اللّه تعالى ويُكبِّره
ويُهلِّله ويُوحِّده ويُسبِّحه ويُكثر من التلبية والدعاء، ويُستحبّ أن
يقولَ: اللَّهُمَّ كما وَقَفْتَنا فِيهِ وأرَيْتَنا إيّاه، فَوَفِّقْنا
لذِكْرِكَ كما هَدَيْتَنا، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمنَا كما وَعَدْتَنا
بِقَوْلِكَ وَقَوْلُكَ الحَقّ: {فإذا
أفضْتُمْ مِنْ عَرفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّه عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ
واذْكُرُوهُ كما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلهِ لَمِنَ الضَّالِّين،
ثمَّ أفيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللّه إنَّ اللّه
غَفُورٌ رَحيمٌ} [البقرة: 198 ـ 199] ويُكثر من قوله: {رَبَّنَا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَضنَةً وفي الآخِرةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذاب النَّارِ} [البقرة: 201].
ويُستحبّ أن يقول: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْد
كُلُّهُ، وَلَكَ الكَمالُ كُلُّهُ، ولك الجَلالُ كُلُّهُ، ولك التقديس
كُلُّهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي جَميعَ ما أسْلَفْتُهُ، وَاعْصِمْنِي فِيما
بَقِيَ، وَارْزُقْني عَمَلاً صَالِحاً تَرْضَى بِهِ عنِّي يا ذَا الفَضْلِ
العَظِيمِ" (23)
"اللَّهُمَّ إني أسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ بخَوَاصّ
عِبَادِكَ، وأتَوَسَّلُ بِكَ إِلَيْكَ، أسألُكَ أنْ تَرْزُقَنِي جَوَامِعَ
الخَيْرِ كُلِّهِ، وأن تَمُنَّ عَليَّ بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلى
أوْلِيائِكَ، وأنْ تُصْلحَ حالي في الآخِرَةِ وَالدُّنْيا يا أرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ!" (24)
فصل: في الأذكار المستحبّة في الدفع من المشعر الحرام إلى منىً.
إذا أسفر الفجرُ انصرفَ من المشعر الحرام متوجهاً إلى مِنىً، وشعارهُ
التلبيةُ والأذكارُ والدعاءُ والإِكثارُ من ذلك كلّه، وليحرصْ على التلبية
فهذا آخر زمنها، وربما لا يُقدَّر له في عمره تلبية بعدها.
فصل: في الأذكار المستحبة بمِنى يَوْمَ النحر.
إذا انصرفَ من المشعر الحرام ووصلَ مِنىً يُستحبّ أن يقول: "الحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذي بَلَّغَنِيها سالِماً مُعافَىً، اللَّهُمَّ هَذِهِ مِنَى
قَدْ أتَيْتُها وأنا عَبْدُكَ وفي قَبْضَتِكَ أسألُكَ أنْ تَمُنَّ عَليَّ
بِمَا مَنَنْتَ به على أوليائِكَ؛ اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ
الحِرْمانِ وَالمُصِيبَةِ في دِينِي يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ!" (25) .
فإذا شرعَ في رمي جمرة العَقَبة قطعَ التلبية مع أوّل
حصاة واشتغلَ بالتكبير فيُكبِّر مع كل حصاة، ولا يُسنُّ الوقوف عندها
للدعاء، وإذا كان معه هَدْي فنحرَه أو ذبحه، استحبّ أن يقول عند الذبح أو
النحر: "بِسْمِ اللَّهِ واللَّهُ أكْبَرُ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ على
مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وسَلّم، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، تَقَبَّلْ
مِنِّي" أو تَقَبَّلْ مِنْ فُلانٍ إن كان يذبحه عن غيره.
وإذا حلَقَ رأسه بعد الذبح فقد استحبّ بعض علمائنا أن يُمسك ناصيته
(26)
بيده حالة الحلق ويُكبِّر ثلاثاً ثم يقول: الحَمْدُ للّه على ما
هَدَانا، والحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْنا؛ اللَّهُمَّ
هَذِهِ نَاصِيَتي فَتَقَبَّلْ مِنِّي وَاغْفِرْ لي ذُنُوبي، اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لي وللْمُحَلِّقِينَ والمُقَصِّرِينَ، يا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ,
آمِين. وإذا فرغ من الحلق كبَّر وقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي قَضَى
عَنَّا نُسُكَنا؛ اللَّهُمَّ زِدْنا إيمَاناً وَيَقِيناً وَتَوْفِيقاً
وَعَوناً، وَاغْفِرْ لَنَا ولآبائِنا وأُمَّهاتِنا والمُسْلِمينَ
أجْمَعِينَ.
3/490 روينا في صحيح مسلم، عن نُبَيْشَةَ الخير (27) الهذليِّ الصحابي رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "أيَّامُ التَّشْرِيقِ (28) أيَّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذْكْرِ اللَّهِ تَعالى".
فيُستحبّ الإِكثار من الأذكار، وأفضلُها قراءة القرآن. والسنّة أن يقف
في أيام الرمي كل يوم عند الجمرة الأولى إذا رماها، ويستقبل الكعبة، ويحمَد
اللّه تعالى، ويُكبِّر، ويُهلِّلُ، ويُسبِّح، ويدعو مع حضور القلب وخشوع
الجوارح، ويَمكثُ كذلك قدرَ قراءة سورة البقرة، ويفعلُ في الجمرة الثانية
وهي الوسطى كذلك، ولا يقفُ عند الثالثة، وهي جمرة العقبة. (29)
فصل:
وإذا نفرَ من مِنىً فقد انقضى حجُّه ولم يبقَ ذكرٌ يتعلَّق بالحجّ لكنه
مسافر، فيُستحبّ له التكبير والتهليل والتحميد والتمجيد وغير ذلك من
الأذكار المستحبة للمسافرين. وسيأتي بيانُها إن شاء اللّه تعالى.
وإذا دخل مكة وأراد الاعتمار فعل في عمرته من الأذكار
ما يأتي به في الحجّ في الأمور المشتركة بين الحجّ والعمرة، وهي:
الإحرام والطواف والسعي والذبح والحلق، واللّه أعلم.
4/491 روينا عن جابر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "مَاءُ زمْزَمَ لِما شُرِبَ لَهُ".
وهذا مما عَمِلَ العلماءُ والأخيارُ به، فشربُوه لمطالبَ لهم جليلةٍ
فنالوها. قال العلماء: فيُستحبّ لمن شربَه للمغفرة أو للشفاء من مرضٍ
ونحو ذلك أن يقول عند شربه: اللَّهُمَّ إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ
اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ماءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ"
اللَّهُمَّ وإني أشْرَبُهُ لِتَغْفِرَ لي وَلِتَفْعَلَ بي كَذَا وكَذَا،
فاغْفِرْ لي أوِ افْعَلْ. أو: اللَّهُمَّ إني أشْرَبُهُ مُسْتَشْفِياً
بِهِ فَاشْفِني، ونحو هذا، واللّه أعلم. (30)
فصل: وإذا أراد الخروج من مكة
إلى وطنه طافَ للوَدَاع، ثم أتى الملتَزَم فالتزمه، ثم قال:
"اللَّهُمَّ، البَيْتُ بَيْتُك، وَالعَبْدُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبدِكَ
وابْنُ أمَتِكَ، حَمَلْتَنِي على ما سَخَّرْتَ لي مِنْ خَلْقِكَ، حتَّى
سَيَّرْتَني فِي بِلادِكَ، وَبَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ حتَّى أعَنْتَنِي
على قَضَاءِ مَناسِكِكَ، فإنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فازْدَدْ عني رِضاً
وَإِلاَّ فَمِنَ الآنَ قَبْلَ أنْ يَنأى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، هَذَا
أوَانُ انْصِرَافي، إنْ أذِنْتَ لي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلا
بِبَيْتِكَ، وَلا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ
فأصْحِبْنِي العافِيَةَ في بَدَنِي وَالعِصْمَةَ في دِينِي، وأحْسِنْ
مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طاعَتَكَ ما أبْقَيْتَنِي، واجْمَعْ لي خَيْرَي
الآخِرةِ والدُّنْيا، إنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قدِيرٌ" (31)
ويفتتحُ هذا الدعاءَ ويختمه بالثناء على اللّه سبحانه
وتعالى، والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما تقدم في غيره من
الدعوات. وإن كانت امرأة حائضاً استحبّ لها أن تقف على باب المسجد وتدعو
بهذا الدعاء ثم تنصرف، واللّه أعلم.
فصل: في زيارة قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأذكارها.
اعلم أنه ينبغي لكل من حجّ أن يتوجه إلى زيارة رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإن زيارته صلى
اللّه عليه وسلم من أهمّ القربات وأربح المساعي (32)
وأفضل الطلبات، فإذا توجَّه للزيارة أكثرَ من الصلاة عليه صلى اللّه عليه
وسلم في طريقه، فإذا وقعَ بصرُه على أشجار المدينة وحَرمِها وما يَعرفُ بها
زاد من الصلاة والتسليم عليه صلى اللّه عليه وسلم، وسألَ اللّه تعالى أن
ينفعَه بزيارته صلى اللّه عليه وسلم، وأن يُسعدَه بها في الدارين،
وليقلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ عَليَّ أبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَارْزُقْنِي في
زِيارَةِ قَبْرِ نَبِيِّكَ صلى اللّه عليه وسلم ما رزقْتَهُ أوْلِياءَكَ
وأهْلَ طَاعَتِكَ واغْفِرْ لي وارْحمنِي يا خَيْرَ مَسْؤُول. وإذا أراد
دخول المسجد استحبّ أن يقولَ ما يقوله عند دخول باقي المساجد، وقد قدّمناه
في أول الكتاب، فإذا صلّى تحية المسجد أتى القبر الكريم فاستقبله واستدبر
القبلة على نحو أربع أذرع من جدار القبر، وسلَّم مقتصداً لا يرفع صوته،
فيقول: "السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللّه! السَّلامُ عَلَيْكَ يا
خِيرَةَ اللّه مِنْ خَلْقِهِ! السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ
اللَّهِ! السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ! السَّلامُ عَلَيْكَ وَعلى آلِكَ وأصْحابِكَ وأهْلِ
بَيْتِكَ وَعَلى النَّبيِّينَ وَسائِرِ الصَّالِحِينَ؛ أشْهَدُ أنَّكَ
بَلَّغْتَ الرِّسالَةَ، وأدَّيْتَ الأمانَةَ، وَنَصَحْتَ الأُمَّةَ،
فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أفْضَلَ مَا جَزَى رَسُولاً عَنْ أُمَّتِهِ" (33)
وإن كان قد أوصاه أحدٌ بالسَّلام على رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم قال: السَّلام عليك يا رسولَ اللّه من فلان بن فلان!
ثم يتأخرَ قدر ذراع إلى جهة يمينه فيُسلِّم على أبي بكر، ثم يتأخرُ ذراعاً
آخرَ للسلام على عُمر رضي اللّه عنهما، ثم يرجعُ إلى موقفه الأوّل قُبالة
وجهِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيتوسلُ به في حقّ نفسه، ويتشفعُ به
إلى ربه سبحانه وتعالى، ويدعو لنفسه ولوالديه وأصحابه وأحبابه ومَن أحسنَ
إليه وسائر المسلمين، وأن يَجتهدَ في إكثار الدعاء، ويغتنم هذا الموقف
الشريف ويحمد اللّه تعالى ويُسبِّحه ويكبِّره ويُهلِّله ويُصلِّي على رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويُكثر من كل ذلك، ثم يأتي الروضةَ بين القبر
والمنبر، فيُكثر من الدعاء فيها.
5/492 فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ما
بَيْنَ قبري وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ".(34)
وإذا أراد الخروج من المدينة والسفرَ استحبّ أن
يُودِّع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحبّ، ثم يأتي القبر فيُسلّم كما سلَّم
أوّلاً، ويُعيد الدعاء، ويُودّع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ويقول:
"اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ هَذَا آخِرَ العَهْدِ بِحَرَمِ رَسُولِكَ،
وَيَسِّرْ لي العَوْدَ إِلى الحَرَمَيْنِ سَبِيلاً سَهْلَةً بِمَنِّكَ
وَفَضْلِكَ، وَارْزقْنِي العَفْوَ والعَافِيةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ،
وَرُدَّنا سالِمِينَ غانِمِينَ إلى أوْطانِنا آمِنِينَ
فهذا آخرُ ما وفّقني اللّه بجمعه من أذكار الحجّ.
وهي وإن كان فيها بعض الطول بالنسبة إلى هذا الكتاب فهي مختصرة بالنسبة إلى
ما نحفظه فيه، واللّه الكريم نسأل أن يوفِّقنا لطاعته، وأن يجمعَ بيننا
وبين إخواننا في دار كرامته.
وقد أوضحت في كتاب المناسك ما يتعلَّق بهذه الأذكار
من التتمّات والفروع الزائدات، واللّه أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة
والتوفيق والعصمة.
وعن العُتْبيّ (35)
قال: كنتُ جالساً عند قبر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فجاء أعرابيٌّ
فقال: السلام عليك يا رسول اللّه! سمعتُ اللّه تعالى يقول: {وَلَوْ
أنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ مَنْ دُفنتْ بالقاع أعظُمُه * فطابَ من طيبهنَّ القَاعُ والأكمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ * فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ
قال: ثم انصرفَ، فحملتني عيناي فرأيت النبيَّ صلى
اللّه عليه وسلم في النوم فقال لي: يا عُتْبيّ، الحقِ الأعرابيَّ فبشِّره
بأن اللّه تعالى قد غفر له.
-------------------
اقرأ بعده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق