كتاب أذكار الأكل والشّرب
عن النبيّ
صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إليه:
"اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيما رَزَقْتَنا، وَقِنا عَذَابَ النَّارِ،
باسم اللَّهِ".(1)
اعلم أنه يُستحبّ لصاحِب الطعام أن يقولَ لضيفه عند
تقديم الطعام: باسم اللّه، أو كُلوا، أو الصَّلاة، أو نحو ذلك من
العبارات المصرِّحة بالإِذن في الشروع في الأكل، ولا يجب هذا القول، بل
يكفي تقديمُ الطعام إليهم، ولهم الأكل بمجرّد ذلك من غير اشتراط لفظ، وقال
بعض أصحابنا: لا بدّ من لفظ، والصوابُ الأوّل، وما ورد في الأحاديث
الصحيحة من لفظ الإِذن في ذلك: محمول على الاستحباب.
قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ".(2)(البخاري
(5376) ، ومسلم (2022) ، والموطأ 2/934، وأبو داود (3777) ،
والترمذي (1858) ، وابن ماجه (3267) ، والنسائي (278) .
وتتمته: وكُلْ مما يليكَ .) "(البخاري (5376) ، ومسلم
(2022) ، والموطأ 2/934، وأبو داود (3777) ، والترمذي (1858) ،
وابن ماجه (3267) ، والنسائي (278) . وتتمته: "وكُلْ مما
يليكَ".)
قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ
اللَّهِ تَعالى في أوَّلِهِ، فإنْ نَسِيَ أنْ يَذْكُر اسْمَ اللَّهِ تَعالى
في أوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: باسم اللَّهِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ" قال الترمذي: حديث حسن صحيح(3)
3/559 وروينا في صحيح مسلم، عن
جابر رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:
"إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعالى عنْدَ
دُخُولِهِ وَعنْدَ طَعامِهِ، قالَ الشَّيْطانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا
عَشاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعالى عنْدَ دُخُولِهِ
قالَ الشَّيْطانُ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ
تَعالى عِنْدَ طَعامِهِ قالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالعَشاء".(4)
4/560 وروينا في صحيح مسلم أيضاً، في
حديث أنس المشتمل على معجزةٍ ظاهرةٍ من معجزاتِ رسولِ اللّه صلى اللّه
عليه وسلم لمَّا دعاهُ أبو طلحةَ وأُمُّ سُليم للطعام، قال: ثم قال
النبيّ صلى اللّه عليه وسلم "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فأذن لهم، فدخلُوا
فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: كُلُوا وسَمُّوا اللَّهَ تَعالى"
فأكلُوا حتى فعلَ ذلك بثمانين رجلاً. (5)
5/561 وروينا في صحيح مسلم أيضاً، عن
حذيفة رضي اللّه عنه قال: كنّا إذا حضرْنَا مع رسولِ اللّه صلى اللّه
عليه وسلم طعاماً لم نضعْ أيدينا حتى يبدأ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
فيضعُ يدَه، وإنّا حضرنا معه مرّة طعاماً فجاءت جارية كأنها تُدفعُ،
فذهبتْ لتضعَ يدَها في الطعام فأخذَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
بيدها، ثم جاءَ أعرابيٌّ كأنما يُدْفَعُ، فأخذَ بيدِه، فقال رسولُ اللّه
صلى اللّه عليه وسلم: "إنَّ الشَّيْطانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعامَ أنْ لا
يُذْكَرَ اسْمُ اللّه عَلَيْه، وأنَّهُ جاءَ بهَذِهِ الجارِيَةِ
لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فأخَذْتُ بِيَدِها، فَجاءَ بهذا الأعْرابِيّ
لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فأخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِه إنَّ
يَدَهُ في يَدِي مَعَ يَدِهِما" ثم ذكر اسم اللّه تعالى وأكل. (6)
كان رسولُ
اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً ورجلٌ يأكلُ، فلم يُسمّ حتى لم يبقَ من
طعامه إلا لقمة، فلما رفعها إلى فِيه قال: باسم اللّه أوّله وآخرُه،
فضحكَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: "ما زَالَ الشَّيْطانُ
يأكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ ما في بَطْنِهِ" (7)قلتُ
مَخْشِيّ، بفتح الميم وإسكان الخاء وكسر الشين المعجمتين وتشديد الياء؛
وهذا الحديث محمول على أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لم يعلمْ تركَه
التسمية إلا في آخر أمره، إذ لو علم ذلك لم يسكتْ عن أمره بالتسمية.
7/563 وروينا في كتاب الترمذي، عن
عائشةَ رضي اللّه عنها قالت: كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
يأكلُ طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ فأكلَه بلقمتين، فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "أما إنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفاكُمْ" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (8)
8/564 وروينا، عن
جابر رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ
نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ على طَعامِهِ، فَلْيَقْرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ
إذَا فَرَغَ".(9)
قلت: أجمع العلماءُ على استحباب التسمية على الطعام
في أوّلِه، فإن تركَ في أوله عامداً أو ناسياً أو مُكرهاً أو عاجزاً لعارض
آخر ثم تمكن في أثناء أكلِه، استحبّ أن يسمّي للحديث المتقدم ويقول:
باسم اللّه أوله وآخره، كما جاء في الحديث. والتسميةُ في شرب الماء
واللبن والعسل والمرق وسائر المشروبات كالتسمية في الطعام في جميع ما
ذكرناه. قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: ويُستحبُّ أن يجهرَ بالتسمية
ليكونَ فيه تنبيهٌ لغيره على التسمية وليُقتدى به في ذلك، واللّه أعلم.
1/565 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: ما عابَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
طعاماً قطّ، إن اشتهاه أكلَه، وإن كرهَه تركَه. وفي رواية لمسلم: وإن
لم يشتهه سكت. (10)
2/566 وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، عن هُلْب (11)
الصحابي رضيَ اللّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
وسأله رجلٌ: إن من الطعام طعاماً أتحرّجُ منه؟ فقال: "لا
يَتَحَلَّجَنَّ في صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ بِهِ النَّصْرانِيَّةَ".(12)
قلتُ: هُلْب بضمّ الهاء وإسكان اللام وبالباء
الموحدة. وقوله يَتَحَلَّجَنَّ، هو بالحاء المهملة قبل اللام والجيم
بعدها، هكذا ضبطه الهروي والخطابي والجماهير من الأئمة، وكذا ضبطناه في
أصول سماعنا سنن أبي داود وغيره بالحاء المهملة، وذكره أبو السعادات ابن
الأثير بالمهملة أيضاً، ثم قال: ويُروى بالخاء المعجمة، وهما بمعنى
واحد. قال الخطابي: معناه لا يقع في ريبة منه. قال: وأصله من
الحلج: هو الحركة والاضطراب، ومنه حَلْجُ القطن. قال: ومعنى ضارعتَ
النصرانية: أي قاربتها في الشبه، فالمضارعة: المقاربة في الشبه.
1/567 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
خالد بن الوليد رضي اللّه عنه في حديث الضَّبِّ لما قدَّموه مشوياً إلى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأهوى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
بيده إليه، فقالوا: هو الضَّبُّ يا رسولَ اللّه! فرفعَ رسولُ اللّه صلى
اللّه عليه وسلم يدَه، فقال خالد: أحرام الضَّبُّ يا رسول اللّه؟!
قال: "لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأرْضِ قَوْمي فأجِدُنِي
أعافُهُ".(13)
1/568 روينا في صحيح مسلم، عن
جابر رضي اللّه عنه؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم سألَ أهلَه الأُدْمَ،
فقالوا: ما عندنا إلاَّ خَلّ، فدعا به فجعلَ يأكلُ منه ويقول:
"نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ، نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ".(14)
1/569 روينا في صحيح مسلم، عن
أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فإنْ كانَ صَائِماً فلْيُصَلِّ،
وَإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ" قال العلماء: معنى فليصل: أي فليدْعُ. (15)
2/570 وروينا في كتاب ابن السني وغيره، قال فيه: "فإنْ كانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وَإنْ كَانَ صَائِماً دَعا لَهُ بالبَرَكَةِ".(16)
1/571 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي مسعودٍ الأنصاري قال: دعا رجلٌ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم لطعامٍ
صنعَه له خامسَ خمسةٍ، فتبعهُم رجلٌ، فلما بلغَ البابَ قال النبيّ صلى
اللّه عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنا فإنْ شِئْتَ أَنْ تأذَنَ
لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ" قال: بل آذنُ له يا رسولَ اللّه! (17)
كنتُ
غلاماً في حِجْر رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانتْ يدي تطيشُ في
الصحفة، فقال لي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "يا غُلامُ! سَمّ
اللّه تعالى، وكُلْ بِيَمينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" وفي رِوَاية في
الصحيح قال: أكلتُ يوماً مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجعلتُ آكلُ
من نواحي الصحفة، فقال لي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "كُلْ
مِمَّا يَلِيكَ". قُلت: قولُه تطِيشُ، بكسر الطاء وبعدها ياء
مثناة من تحت ساكنة، ومعناه: تتحرّك وتمتدّ إلى نواحي الصحفة ولا تقتصرُ
على موضع واحد. (18)
2/573 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
جبلةَ بن سحيم قال: أصابَنَا عامُ سَنةٍ مع ابن الزبير، فرزقنا، فكان
عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما يمرّ بنا ونحن نأكلُ، ويقولُ: لا
تقارِنُوا، فإن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الإِقران، ثم يقول:
إلاَّ أنْ يَسْتأذِنَ الرَّجُلُ أخاهُ. (19)
قلت: قوله لا تقارنوا: أي لا يأكل الرجل تمرتين في لقمة واحد.
3/574 وروينا في صحيح مسلم، عن سلمة بن الأكوع رضي اللّه عنه؛ أن رجلاً أكل عندَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بشماله، فقال: "كُلْ بِيَمِيْنِكَ" (20) ، قال: لا أستطيعُ، قال: "لا اسْتَطَعْتَ" (21) ، ما منعه إلا الكِبْر (22) ، فما رفعها إلى فِيْه. (23)
قلتُ: هذا الرجل هو بُسر بضم الموحدة وبالسين
المهملة: ابن راعي العَير بالمثناة وفتح العين، وهو صحابي، وقد أوضحتُ
حالَه، وشرح صحيح مسلم" واللّه أعلم.
فيه حديث جابر (24)
الذي قدَّمناه في باب مدح الطعام. قال الإِمام أبو حامد الغزالي في
"الإِحياء": من آداب الطعام أن يتحدَّثوا في حال أكله بالمعروف،
ويتحدّثوا بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها.
1/575 روينا في سنن أبي داود وابن ماجه، عن
وحشيِّ بن حرب رضي اللّه عنه؛ أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
قالوا: يا رسولَ اللّه! إنّا نأكلُ ولا نشبعُ، قال: "فَلَعَلَّكُم
تَفْتَرِقُونَ، قالوا: نعم، قال: فاجْتَمِعُوا على طَعامِكُمْ
واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه".(25)
2/576 روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، عن
جابر رضي اللّه عنه؛ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذَ بيدِ مجذومٍ
فوضعَها معه في القَصعةِ، فقال: "كُلْ باسم اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ
وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ".(26)
بابُ
استحباب قولِ صاحبِ الطَّعام لضيفهِ ومَنْ في معناهُ إذا رفع يده من
الطعام "كُلْ" وتكريرُه ذلك عليه ما لم يتحقّقْ أنه اكتفى منه وكذلك
يفعلُ في الشرابِ والطِّيبِ ونحو ذلك
اعلم أن هذا مُستحبّ، حتى يُستحبّ ذلك للرجل مع
زوجته وغيرها من عيالِه، الذين يُتوهم منهم أنهم رفعوا أيديهم ولهم حاجةٌ
إلى الطعام وإن قلَّت.
ومما يُستدّل به في ذلك:
1/577 ما رويناهُ في صحيح البخاري، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه في حديثه الطويل المشتمل على معجزاتٍ ظاهرةٍ
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما اشتدّ جوعُ أبي هريرة وقعدَ على
الطريق يستقرىءُ مَن مَرَّ به القرآن معرّضاً بأن يُضيفه، ثم بعثه رسولُ
اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل الصفّةِ فجاءَ بهم فأرْواهم أجمعينَ من
قدحِ لبنٍ، وذكر الحديث إلى أن قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم "بَقِيتُ أنا وَأنْتَ" قلتُ: صَدقتَ يا رسولَ اللّه! قال:
"اقْعُدْ فاشْرَبْ" فقعدتُ فشربتُ، فقال: "اشْرَبْ" فَشَرِبْتُ،
فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ، حتى قلتُ: لا، والذي بعثك بالحقّ لا أجد له
مَسْلَكاً، قال: فأرِني، فأعطيته القدحَ فحمد اللّه تعالى وسمَّى وشربَ
الفضلةَ. (27)
1/578 روينا في صحيح البخاري، عن
أبي أُمامةَ رضي اللّه عنه أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان إذا رفع
مائدته قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ
غَيْرَ مَكْفيٍّ وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنىً عَنْهُ رَبَّنا" وفي
رواية "كان إذا فَرَغَ من طعامِه" وقال مرّة: إذا رفع مائدته قال:
"الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفانا وأرْوَانا غَيْرَ مَكْفِيّ ولا
مَكْفُورٍ".(28)
قلتُ: مكْفيّ بفتح الميم وتشديد الياء، هذه الرواية
الصحيحة الفصيحة، ورواه أكثر الرواة بالهمز وهو فاسد من حيث العربية، سواء
كان من الكفاية أو من كفأت الإِناء، كما لا يقال في مقروء من القراءة:
مقرىء، ولا في مرمىْ بالهمز. قال صاحب مطالع الأنوار في تفسير هذا
الحديث: المراد بهذا المذكور كله الطعام، وإليه يعود الضمير. قال
الحربيّ: فالمكفيّ: الإِناء المقلوب للاستغاء عنه كما قال "غير
مستغنى عنه" أو لعدمه، وقوله غير مكفور: أي غير مجحود نِعمَ اللّه
سبحانه وتعالى فيه، بل مشكورة، غير مستور الاعتراف بها والحمد عليها.
وذهب الخطابي إلى أن المراد بهذا الدعاء كله البارى
سبحانه وتعالى، وأن الضمير يعود إليه، وأن معنى قوله غير مكفيّ: أنه
يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ كأنه على هذا من الكفاية، وإلى هذا ذهب غيره في
تفسير هذا الحديث: أي إن اللّه تعالى مستغنٍ عن معين وظهير، قال: وقوله
لا مودّع: أي غير متروك الطلب منه والرغبة إليه، وهو بمعنى المستغنى
عنه، وينتصب ربنا على هذا بالاختصاص أو المدح أو بالنداء كأنه قال: يا
ربنا اسمع حمدنا ودعاءنا، ومن رفعه قطعه وجعله خبراً، وكذا قيده الأصيلي
كأنه قال: ذلك ربّنا: أي أنت ربنا، ويصحّ فيه الكسر على البدل من الاسم
في قوله الحمد للّه.
وذكر أبو السعادات ابن الأثير في نهاية الغريب نحو
هذا الخلاف مختصراً. وقال ومن رفع ربّنا فعلى الابتداء المؤخر: أي ربنا
غير مكفيّ ولا مودع، وعلى هذا يرفع غير. قال: ويجوز أن يكون الكلام
راجعاً إلى الحمد كأنه قال: حمداً كثيراً غير مكفي ولا مودّع ولا مستغنى
عن هذا الحمد. وقال في قوله ولا مودّع: أي غير متروك الطاعة، وقيل هو
من الوداع وإليه يرجع، واللّه أعلم.
2/579 وروينا في صحيح مسلم، عن
أنس رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"إنَّ اللّه تعالى لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ يأكُلُ الأكْلَةَ
فَيَحْمَدُهُ عَلَيْها، ويَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْها".(29)
3/580 وروينا في سنن أبي داود وكتابي "الجامع" و"الشمائل" للترمذي، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه؛
أن
النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم كان إذا فَرَغ من طعامه قال: "الحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذي أطْعَمَنَا وَسَقانا وَجَعَلَنا مُسْلِمِينَ".(30)
4/581 وروينا في سنن أبي داود والنسائي، بالإِسناد الصحيح، عن
أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم إذا أكَلَ أو شَرِبَ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي
أطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً".(31)
قال رسولُ
اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "مَنْ أكَلَ طَعاماً فَقالَ: الحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي
وَلاَ قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" قال
الترمذي: حديث حسن. قال الترمذي: وفي الاب ـ يعني باب الحمد على
الطعام إذا فرغَ منه ـ عن عقبةَ بن عامر وأبي سعيد وعائشة وأبي أيوب وأبي
هريرة. (32)
بأنه
حدَّثه رجلٌ خدمَ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم ثماني سنين أنه كان يسمعُ
النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم إذا قَرَّبَ إليه طعاماً يقول: "باسم
اللَّهِ" فإذا فَرغَ من طعامه قال: "اللَّهُمَّ أطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ
وَأغْنَيْتَ وأقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وأحْسَنْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ على ما
أعْطَيْتَ".(33)
عن النبيّ
صلى اللّه عليه وسلم؛ أنه كان يقول في الطعام إذا فرغَ: "الحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذي مَنَّ عَلَيْنا وَهَدَانا، وَالَّذي أشْبَعَنا وَأرْوَانا،
وكُلَّ الإِحْسانِ آتانا"(34)
8/585 وروينا في سنن أبي داود والترمذي وكتاب ابن السني، عن
ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ طَعاماً" وفي رواية ابن السني "مَنْ أطْعَمَهُ
اللَّهُ طَعاماً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيهِ وأطْعِمْنا
خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقاهُ اللَّهُ تعالى لَبَناً فَلْيَقُلِ:
اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيهِ وَزِدْنا مِنْهُ، فإنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ
يُجْزِىءُ منَ الطَّعامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ" قال الترمذي: حديث حسن. (35)
9/586 وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن
عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم إذا شرب في الإِناء تنفَّسَ ثلاثة أنفاسٍ يحمد اللّه تعالى في كل
نفس، ويشكرُه في آخره. (36)
1/587 روينا في صحيح مسلم، عن
عبد اللّه بن بُسْرٍ ـ بضمّ الباء وإسكان السين المهملة ـ الصحابيّ،
قال: نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أبي: فقرّبنا إليه طعاماً
ووَطْبَةً فأكل منها، ثم أُتيَ بتمر فكان يأكلُه ويُلقي النَّوَى بين
أصبعيه ويجمعُ السبَّابَةَ والوُسطى ـ قال شعبة: هو ظني وهو فيه إن شاء
اللّه تعالى إلقاءُ النَّوى بين الأصبعين ـ ثم أُتي بشرابٍ فشربَه، ثم
ناولَه الذي عن يمينه، فقال أبي، وأخذَ بلجامِ دابّته: ادعُ اللَّهَ لنا،
فقال: "اللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِيما رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ
لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ".(37)
قلتُ: الوطبة بفتح الواو وإسكان الطاء المهملة بعدها باء موحدة: وهي قربة لطيفة يكون فيها اللبن.
1/588 وروينا في سنن أبي داود وغيره، بالإِسناد الصحيح، عن
أنس رضي اللّه عنه؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة
رضي اللّه عنه، فجاء بخبزٍ وزيْتٍ فأكل، ثم قال النبيّ صلى اللّه عليه
وسلم: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وأكَلَ طَعَامَكُمُ
الأبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ".(38)
3/589 وروينا في سنن ابن ماجه، عن
عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما قال: أفطرَ رسولُ اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عند سعد بن معاذ، فقال: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ
الصَّائِمُونَ" الحديث. (39)
قلتُ: فهما قضيتان جَرَتَا لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ.
4/590 وروينا في سنن أبي داود، عن
رجل عن جابر رضي اللّه عنه قال: صنعَ أبو الهيثم بن التَّيِّهَان
للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم طعاماً، فدعا النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم
وأصحابَه، فلما فرغوا، قال: "أثِيبُوا أخاكُمْ" قالوا: يا رسول
اللّه! وما إثابته؟ قال: "إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخلَ بَيْتُهُ
فأُكِلَ طَعامُهُ وَشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ
إثابَتُهُ".(40)
1/591 روينا في صحيح مسلم، عن
المقداد رضي اللّه عنه في حديثه الطويل المشهور قال: فرفع النبيُّ صلى
اللّه عليه وسلم رأسَه إلى السماء، فقال: "اللَّهُمَّ أطْعِمْ مَنْ
أطْعَمَنِي، وَاسْقِ مَنْ سَقانِي".(41)
2/592 وروينا في كتاب ابن السني، عن
عمرو بن الحَمِقِ رضيَ اللّه عنه؛ أنه سقى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم لَبَناً فقال:" اللَّهُمَّ أمْتِعْهُ بِشَبابِه" فمرّتْ عليه
ثمانون سنةً لم يرَ شعرةً بيضاء. (42) قلت: الحَمِق بفتح الحاء المهملة وكسر الميم.
اسْتَسْقَى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتيتُه بماء في جمجمة وفيها
شعرة فأخرجتُها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "اللَّهُمَّ
جَمِّلْهُ" قال الراوي: فرأيته ابن ثلاث وتسعين أسود الرأس واللحية. (43)(ابن
السني (478) وهو حديث حسن، أخرجه أحمد وابن حبّان والحاكم. انظر
الفتوحات الربانية 5/255) "(ابن السني (478) وهو حديث حسن، أخرجه
أحمد وابن حبّان والحاكم. انظر الفتوحات الربانية 5/255)
قلت: الجُمْجُمة بجيمين مضمومتين بينهما ميم ساكنة،
وهي قدح من خشب وجمعها جماجم، وبه سمي دير الجماجم، وهو الذي كانت به وقعة
ابن الأشعث مع الحجاج بالعراق، لأنه كان يُعمل فيه أقداح من خشب، وقيل:
سمي به لأنه بُنِي من جماجم القتلى لكثرة من قُتل.
1/594 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم ليضيفَه فلم يكنْ عندَه ما يضيفُه، فقال: "ألا رَجُلٌ يُضِيفُ
هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ" فقام رجل من الأنصار فانطلق به. وذكر الحديث. (44)
1/595 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم
فقال: إني مجهودٌ، فأرسلَ إلى بعض نسائِه فقالتْ: والذي بعثكَ بالحقّ
ما عندي إلا ماءٌ، ثم أرسلَ إلى أخرى فقالت مثلَ ذلك، حتى قلنَ كلهنّ مثلَ
ذلك، فقال: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ" فقام
رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسولَ اللّه! فانطلقَ به إلى رحلِه فقال
لامرأته: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا، إلا قوتُ صبياني، قال:
فعلِّليهم بشيء، فإذا دخلَ ضيفُنا فأطفئي السراجَ وأريه أنَّا نأكلُ، فإذا
أهوى ليأكلَ فقومي إلى السِّراجِ حتى تطفئيه، فقعدُوا وأكلَ الضيفُ، فلما
أصبحَ غدا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: "قَدْ عَجِبَ
اللَّهُ مِنْ صُنْعِكُما بِضَيْفِكُما اللَّيْلَةَ" فأنزل اللّه تعالى
هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. (45)
قلتُ: وهذا محمولٌ على أن الصبيان لم يكونوا
محتاجين إلى الطعام حاجة ضرورية، لأن العادةَ أن الصبيّ وإن كان شبعاناً
يطلبُ الطعامَ إذا رأى مَن يأكلُه، ويُحمل فعلُ الرجل والمرأة على أنهما
آثرا بنصيبهما ضيفهما، واللّه أعلم.
بابُ استحباب ترحيب الإِنسان بضيفه وحمده اللّه تعالى على حصوله ضيفاً عنده وسروره بذلك وثنائه عليه لكونه جعلَه أهلاً لذلك
1/596 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، من
طرق كثيرة، عن أبي هريرة وعن أبي شُرَيْحٍ الخزاعيّ رضيَ اللّه عنهما؛ أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ".(46)
2/597 وروينا في صحيح مسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: خرجَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم
ذاتَ يومٍ ـ أو ليلةٍ ـ فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، قال:
"ما أخْرَجَكُما مِنْ بُيُوتِكُما هَذِهِ السَّاعَةَ؟" قالا: الجوع
يا رسول اللّه! قال: "وأنا وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَني
الَّذي أخْرَجَكُما، قُومُوا" فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا
ليس هو في بيته، فلما رأتْهُ المرأةُ قالتْ: مرحبَاً وأهلاً، فقالَ لها
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "أيْنَ فُلانٌ؟" قالت: ذهبَ
يستعذبُ لنا من الماء، إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد للّه، ما أحدٌ اليوم أكرمُ أضيافاً
منّي. وذكر تمام الحديث. (47)
1/598 روينا في كتاب ابن السني، عن
عائشةَ رضي اللّه عنها قالت: قالَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"أذِيبُوا طَعامَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ، وَلا
تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ لَهُ قُلُوبُكُمْ".(48)
اقرأ بعده.......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق