بابُ الإِعراض عن الجاهلين
قال اللَّه سبحانه وتعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وَأعْرضْ عَنِ الجاهلينَ} [الأعراف:199] وقال تعالى: {وَإِذَا
سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا وَلَكُمْ
أعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِين} [القصص:55] وقال تعالى: {فأعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلى عَنْ ذِكْرِنا} [النجم:9] وقال تعالى: {فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ} [الحجر:85]
1/823 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: لما كان يومُ حُنين آثرَ رسولُ
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ناساً من أشرافِ العربِ في القسمة، فقال رجلٌ:
واللّه إن هذه قسمةٌ ما عُدلَ فيها، وما أُريدَ فيها وجهُ اللّه، فقلت:
واللّه لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأتيتُه فأخبرتُه بما قال،
فتغيَّرَ وجهُه حتى كان كالصِرْف، ثم قال: فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ
يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ثم قال: يَرْحَمُ اللّه مُوسَى قَدْ
أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" قلت: الصرف بكسر الصاد المهملة وإسكان الراء، وهو صبغ أحمر. (1)
2/824 وروينا في صحيح البخاري، عن
ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قَدِمَ عُيينة بنُ حصن بن حذيفة، فنزل
على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكانَ من النفرِ الذين يُدنيهم عمرُ رضي اللّه
عنه، وكان القرّاءُ أصحابُ مجلسِ عمرَ رضي اللّه عنه ومشاورته كُهُولاً
كانوا أو شبّاناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، لك وجهٌ عندَ هذا
الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ فأذنَ له عمر، فلما دخلَ قال: هِيْ يا
بن الخطاب، فو اللّه ما تُعطينا الجزل ولا تحكمُ فينا بالعدل، فغضبَ عمرُ
رضي اللّه عنه حتى همّ أن يُوقع به، فقال له الحرّ: يا أميرَ المؤمنين!
إن اللّه تعالى قال لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم: "{خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، واللّه ما جاوزَها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللّه تعالى. (2)
. و"هِي": بكسر الهاء وسكون الياء، كلمة تهديد، وقيل: هي ضمير
وثمَّ محذوف أي: هي داهية. وفي نسخة هيه بهاء السكت في آخره، وفي أخرى
إيه، وهما بمعنى: زدني.)
فيه حديثُ ابن عباس في قصة عمر رضي اللّه عنه في الباب قبلَه.
اعلم أن هذا البابَ مما تتأكدُ العنايةُ به، فيجبُ
على الإِنسان النصيحةُ والوعظُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر لكل
صغير وكبير إذا لم يغلبْ على ظنه ترتُّبُ مفسدةٍ على وعظه، قال اللّه
تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} [النحل:125] وأما الأحاديثُ بنحو ما ذكرنا فأكثرُ من أن تُحصر.
وأما ما يفعله كثيرٌ من الناس من إهمال ذلك في حقّ
كبار المراتب وتوهمهم أنَّ ذلك حياء، فخطأٌ صريحٌ وجهلٌ قبيحٌ، فإن ذلك ليس
بحياء، وإنما هو خَوَرٌ ومهانةٌ وضعفٌ وعجزٌ، فإن الحياءَ خيرٌ كلُّه،
والحياءُ لا يأتي إلا بخير، وهذا يأتي بشرٌ، فليس بحياء، وإنما الحياءُ عند
العلماء الربانيين والأئمة المحققين: خُلُق يبعثُ على ترك القبيح،
ويمنعُ من التقصير في حقّ ذي الحقّ، وهذا معنى ما رويناه عن الجُنيد رضي
اللّه عنه في رسالة القشيري قال: الحياءُ رؤيةُ الآلاء، ورؤيةُ التقصير،
فيتولد بينهما حالة تُسمَّى حياء. وقد أوضحتُ هذا مبسوطاً في أوّل شرح
صحيح مسلم، وللّه الحمد، واللّه أعلم.
قال اللّه تعالى: {وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عاهَدْتُم} [النحل:91] وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ أمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ} [المائدة:1] وقال تعالى: {وأوْفُوا بالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً}[الإسراء:34]. والآيات في ذلك كثيرة، ومن أشدّها قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ أمَنوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]
1/825 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرةَ رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:
"آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ
أخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خانَ" زاد في رواية "وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى
وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ" والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. (3)
وقد أجمعَ العلماءُ على أن مَن وعد إنساناً شيئاً ليس
بمنهيّ عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجبٌ أو مستحبّ؟ فيه خلاف
بينهم؛ ذهب الشافعيُّ وأبو حنيفة والجمهورُ إلى أنه مستحبّ، فلو تركه فاته
الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم؛ وذهبَ جماعةٌ إلى
أنه واجب، قال الإِمامُ أبو بكر بن العربي المالكي: أجلُّ مَن ذهبَ إلى
هذا المذهب عمرُ بن عبد العزيز، قال: وذهبتِ المالكية مذهباً ثالثاً أنه
إن ارتبط الوعدُ بسبب كقوله: تزوّج ولك كذا، أو احلف أنك لا تشتمني ولك
كذا، أو نحو ذلك، وجب الوفاء، وإن كان وعداً مُطلقاً لم يجب. واستدلّ مَن
لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور،
وعند المالكية: تلزم قبل القبض.
1/826 روينا في صحيح البخاري وغيره، عن
أنس رضي اللّه عنه قال: لما قدموا المدينة نزل عبدُ الرحمن بن عوف على
سعد بن الربيع فقال: أُقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتيّ، قال: بارك
اللّه لك في أهلك ومالك. (4)
اعلم أنه لا يجوز أن يُدعى له بالمغفرة وما أشبهها
مما لا يُقال للكفار، لكن يجوزُ أن يُدعى بالهداية وصحةِ البدن والعافية
وشبهِ ذلك.
1/827 روينا في كتاب ابن السني، عن
أنس رضي اللّه عنه قال: استسقى النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فسقاه
يهوديٌّ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "جَمَّلَكَ اللَّهُ"
فما رأى الشيب حتى ماتَ. (5)
بابُ ما يقولُه إذا رَأى مِن نفسِه أو ولده أو مالِه أو غير ذلكَ شيئاً فأعجبَهُ وخاف أن يصيبه بعينه وأنْ يتضرّرَ بذلك
1/828 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "العَيْنُ حَقٌّ".(6)
2/829 وروينا في صحيحيهما، عن
أُمّ سلمة رضي اللّه عنها: أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى في بيتها
جاريةً في وجهها سفعة فقال: "اسْتَرْقُوا لَهَا، فإنَّ بِهَا
النَّظْرَةَ".(7)
قلتُ: السَّفعة بفتح السين المهملة وإسكان الفاء:
هي تغيّر وصفرة. وأما النظرة فهي العين، يُقال صبيّ منظور: أي أصابته
العين.
3/830 وروينا في صحيح مسلم، عن
ابن عباس رضي اللّه عنهما؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال:
"العَيْنُ حَقٌ، وَلَوْ كانَ شَيْءٌ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ
العَيْنُ، وَ إِذَا اسْتُغْسلْتم فاغْسِلُوا".(8)
قلتُ: قال العلماء: الاستغسال أن يُقال للعائن،
وهو الصائب بعينه الناظر بها بالاستحسان: اغسلْ داخلَ إِزارك مما يلي
الجلد بماء، ثم يُصبّ على العين، وهو المنظور إليه.
وثبت عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان يُؤمر العائن أن يَتوضأ ثم يغتسل منه المعين. رواه أبو داود (9) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
4/831 وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه، عن
أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال: كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم يتعوّذُ من الجانّ وعين الإِنسان حتى نزلت المعوّذتان، فلما نزلتا
أخذَ بهما وتركَ ما سواهما. قال الترمذي: حديث حسن. (10)
5/832 وروينا
في صحيح البخاري حديث ابن عباس؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان
يُعوِّذ الحسن والحسين: "أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ
مِنْ كُلّ شَيْطانٍ وَهامَّةٍ وَمنْ كُلّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ، ويقول: إن
أباكما كانَ يعوّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ".(11)
6/833 وروينا في كتاب ابن السني، عن
سعيد بن حكيم رضي اللّه عنه قال: كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا
خافَ أن يُصيبَ شيئاً بعينه قال: "اللََّهُمَّ بارِكْ فِيهِ وَلا
تَضُرّهُ".(12)
7/834 وروينا فيه، عن
أنس رضي اللّه عنه, أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ
رأى شَيْئاً فَأعْجَبَهُ فَقالَ: ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ
باللَّهِ، لَمْ يَضُرَّهُ".(13)
8/835 وروينا فيه، عن
سهل بن حنيف رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"إذَا رأى أحَدُكُمْ ما يُعْجِبُهُ في نَفْسِهِ أوْ مَالِهِ فَلْيُبَرّكْ
عَلَيْهِ، فإنَّ العَيْنَ حَقُّ".(14)
9/836 وروينا فيه، عن
عامر بن ربيعة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم: "إِذَا رأى أحدُكم من نفسِه ومالِه وأعْجَبَهُ ما يُعْجِبُهُ
فَلْيَدْعُ بالبَرَكَةِ".(15)
وذكر الإِمامُ أبو محمد القاضي حسين من أصحابنا رحمهم
اللّه في كتابه التعليق في المذهب قال: نظرَ بعضُ الأنبياء ـ صلواتُ
اللّه وسلامُه عليهم أجمعين ـ إلى قومه يوماً فاستكثَرهم وأعجبُوه، فماتَ
منهم في ساعة سبعون ألفاً، فأوحى اللّه سبحانه وتعالى إليه: أنَّكَ
عِنْتَهُمْ، وَلَوْ أنَّكَ إذْ عِنْتَهُمْ حَصَّنْتَهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا،
قال: وَبأيّ شَيْءٍ أُحَصّنُهُمْ؟ فأوحى اللّه تعالى إليه: تقولُ:
حَصَّنْتُكُمْ بالحَيِّ القَيُّومِ الَّذي لا يَمُوتُ أبَداً، وَدَفَعْتُ
عَنْكُمُ السُّوءَ بِلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ
العَظيمِ. قال المعلّق عن القاضي حسين: وكان عادة القاضي رحمه اللّه
إذا نظرَ إلى أصحابه فأعجبَه سَمْتُهم وحسنُ حالهم، حصَّنهم بهذا المذكور،
واللّه أعلم.
1/837 روينا في كتاب ابن ماجه وابن السني، بإسناد جيد، عن
عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا
رأى ما يُحِبّ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ
الصَّالِحاتُ" وإذا رأى ما يكره قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ على كلّ
حالٍ" قال الحاكم أبو عبد اللّه: هذا حديث صحيح الإِسناد(16)
يُستحبّ أن يقول: {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النَّار}
[آل عمران:191] إلى آخر الآيات، لحديث ابن عباسٍ رضي اللّه عنهما
المخرّج في صحيحيهما أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك، وقد
سبقَ بيانُه (17) ، واللّه أعلم.
1/838 روينا في صحيح مسلم، عن
معاوية بن الحكم السلميّ الصحابي رضي اللّه عنه قال: قلت: يارسول
اللّه! منَّا رجال يتطيرون، قال: "ذلكَ شَيْءٌ يَجِدُونَه في
صُدُورِهِمْ، فَلا يَصُدَّنّهُمْ".(18)
2/839 وروينا في كتاب ابن السني وغيره، عن عروة (19)
بن عامر الجهنيّ رضي اللّه عنه قال سُئل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن
الطِّيَرة فقال: "أصْدَقُها الفأَلُ، وَلا يَرُدُّ مُسْلِماً، وَإِذَا
رأيتُمْ مِنَ الطِّيَرَةِ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ فَقولُوا: اللَّهُم لا
يأتِي بالحَسَناتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا يَذْهَبُ بالسَّيِّئاتِ إِلاَّ
أنْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ".(20)
قيل: يستحبّ أن يُسمِّيَ اللّه تعالى، وأنْ يسألَه الجنّةَ، ويستعيذَه من النار.
1/840 روينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"نِعْمَ البَيْتُ الحَمَّامُ يَدْخُلُهُ المُسْلِمُ، إذَا دَخَلَهُ سألَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الجَنَّةَ وَاسْتَعاذَهُ مِنَ النَّارِ".(21)
يُستحبّ في الأوّل أن يأخذَ بناصيته ويقول:
اللَّهُمَّ إني أسألُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ، وَأعُوذُ
بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما جُبِلَ عَلَيْهِ.
وقد سبق في كتاب أذكار النكاح الحديث الوارد في نحو
ذلك في سنن أبي داود وغيره، ويقول في قضاء الدَّين "بارَكَ اللَّهُ لَكَ
في أهْلِكَ وَمالِكَ" و"جَزَاكَ خَيْراً" (22)
1/841 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي اللّه عنه قال: شكوتُ إلى النبيّ صلى
اللّه عليه وسلم أني لا أثبتُ على الخيل، فضربَ بيده في صدري وقال:
"اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هادِياً مَهْدِيّاً".(23)
بابُ نهيِ العالم وغيرِه أن يُحدِّثَ الناسَ بما لا يَفهمونه، أو يُخافُ عليهم من تحريف معناه وحملِهِ على خلاف المراد منه
قال اللّه تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4].
1/842 وروينا
في صحيحي البخاري ومسلم؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لمعاذ رضي
اللّه عنه حين طوَّل الصلاة بالجماعة: "أفتَّانٌ أنْتَ يا
مُعاذُ؟!".(24)
2/843 وروينا في صحيح البخاري، عن عليّ رضي اللّه عنه قال: حدّثوا الناسَ بما يَعرفون، أتحِبُّون أن يُكذَّب اللَّهُ ورسولُه صلى اللّه عليه وسلم؟(25)( البخاري (127) ، والمراد بقوله "يعرفون" أي: يفهمون.)
1/844 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: قال لي النبيّ صلى اللّه عليه
وسلم في حجة الوداع: "اسْتَنْصِتِ الناسَ، ثم قال: لا تَرْجِعُوا
بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ".(26)
اعلم أنه يُستحبُّ للعالم والمعلّم والقاضي والمفتي
والشيخ المربّي وغيرهم ممّن يقتدى به ويؤخذ عنه: أن يجتنب الأفعالَ
والأقوالَ والتصرّفات التي ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقّاً فيها، لأنه
إذا فعلَ ذلك ترتَّبَ عليه مفاسد من جملتها: توهم كثير ممّن يعلم ذلك منه
أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً وأمراً معمولاً به
أبداً، ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه وإطلاق ألسنتهم بذلك؛
ومنها أن الناس يُسيئون الظنّ به فينفرون عنه، ويُنَفِّرون غيرهم عن أخذ
العلم عنه وتَسقط رواياته وشهادته، ويبطلُ العمل بفتواه، ويذهبُ ركون
النفوس إلى ما يقولُه من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة؛ فينبغي له اجتناب
أفرادها، فكيف بمجموعها؟ فإن احتاج إلى شيء من ذلك وكان محقّاً في نفس
الأمر لم يظهره، فإن أظهرَه أو ظهرَ أو رأى المصلحةَ في إظهاره ليعلم جوازه
وحكمُ الشرع فيه، فينبغي أن يقولَ: هذا الذي فعلتُه ليس بحرام، أو إنما
فعلتُه لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه الذي فعلتُه، وهو كذا
وكذا، ودليلُه كذا وكذا.
1/845 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
سهل بن سعدٍ الساعديّ رضي اللّه عنه قال: رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه
عليه وسلم قامَ على المِنبر، فكبَّر على الأرض، ثم عادَ إلى المنبر حتى
فرغَ من صلاتِه، ثم أقبلَ على الناس فقال: "أيُّها النَّاسُ! إنَّمَا
صَنَعْتُ هَذَا لِتَأتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتي" والأحاديثُ في
هذا الباب كثيرةٌ كحديث "إنَّهَا صَفِيَّةُ" (27)
وفي البخاري (28) : أن عليّاً شربَ قائماً وقال: رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلَ كما رأيتموني فعلتُ. والأحاديثُ والآثارُ في هذا المعنى في الصحيح مشهورة.
اعلم أنه يُستحبّ للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممّن
يُقتدى به شيئاً في ظاهره مخالفة للمعروف أن يسأله عنه بنيّة الاسترشاد،
فإن كان قد فعلَه ناسياً تداركَه، وإن كان فعلَه عامِداً وهو صحيحٌ في نفس
الأمر، بَيّنه له:
1/846 فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أُسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال: دفعَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم من عَرَفَةَ حتى إذا كان بالشِّعب نزلَ، فَبالَ ثم توضأ، فقلتُ:
الصلاةَ يا رسول اللّه؟! فقال: "الصَّلاةُ أمامَكَ".(29)
قلتُ: إنما قال أُسامة ذلك، لأنه ظنّ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم نسي صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها قربَ خروجه.
2/847 وروينا في صحيحيهما، قولَ سعد بن أبي وقاص: يا رسولَ اللّه! ما لك عن فلان؟ واللّه إني لأراه مؤمناً. (30)
3/848 وفي صحيح مسلم، عن
بريدة؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم صلَّى الصلواتِ يومَ الفتح بوُضوء
واحد، فقال عمر: لقد صنعتَ اليومَ شيئاً لم تكنْ تصنعه، فقال:
"عَمْداً صَنَعْتُهُ يا عُمَرُ!" ونظائر هذا كثيرة في الصحيح مشهورة. (31)
قال اللّه تعالى: {وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ} [آل عمران: 159] والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ مشهورة.
وتُغني هذه الآية الكريمة عن كلّ شيء، فإنه إذا أمرَ
اللّه سبحانه وتعالى في كتابه نصّاً جليّاً، نبّه نبيّه صلى اللّه عليه
وسلم بالمشاورة مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟.
واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن
يَثقُ بدينه وخبرته وحذقه ونصيحته ووَرَعه وشفقته. ويُستحبّ أن يُشاور
جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر،
ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ
بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة كالسلطان والقاضي ونحوهما، والأحاديث
الصحيحة في مشاورة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أصحابَه ورجوعِه إلى
أقوالهم كثيرة مشهورة، ثم فائدة المشاورة القَول من المستشار إذا كان
بالصفة المذكورة، ولم تظهر المفسدة فيما أشار به، وعلى المستشار بذل الوسع
في النصيحة وإعمال الفكر في ذلك.
1/849 فقد روينا في صحيح مسلم، عن
تميم الداريّ رضي اللّه عنه،عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:
"الدّينُ النَّصِيحَةُ، قالوا: لمن يا رسول اللّه؟! قال:
لِلَّهِ وكِتابِهِ وَرَسُولِهِ وأئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ".(32)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "المُسْتَشارُ مُؤْتَمَنٌ".(33)
قال اللّه تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]
1/851 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
عديّ بن حاتم رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".(34)
2/852 وروينا في صحيحيهما، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ
فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ
في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْها أوْ تَرْفَعُ لَهُ عَليْها مَتاعَهُ
صَدَقَةٌ، قال: وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلّ خُطْوَةٍ
تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ
صَدَقَةٌ".(35)
قلتُ: السُّلاَمَى بضم السين وتخفيف اللام: أحدُ
مفاصل أعضاء الإِنسان، وجمعه: سُلامَيَات بضم السين وفتح الميم وتخفيف
الياء، وتقدم ضبطها في أوائل الكتاب.
3/853 وروينا في صحيح مسلم عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه
قال:قال لي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ
المَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ".(36)
1/854 روينا في سنن أبي داود، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:كان كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كلُّ مَن يسمعُه. (37)
2/855 وروينا في صحيح البخاري، عن
أنس رضي اللّه عنه،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أنه كان إذا تكلَّم
بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم، سلَّم
عليهم ثلاثاً. (38)
1/856 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه،أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقولُ لأخيه الصغير: "يا أبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُّغَيْرُ".
2/857 وروينا في كتابي أبي داود والترمذي، عن أنس أيضاً؛أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم قال له: "يا ذَا الأُذُنَيْنِ" قال الترمذي: حديث صحيح. (39)
3/858 وروينا
في كتابيهما أيضاً؛أن رجلاً أتى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا
رسولَ اللّه! احملني، فقال: "إني حامِلُكَ على وَلَدِ النَّاقَةِ"
فقال: يا رسولَ اللّه! وما أصنعُ بولد الناقة؟ فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم: "وَهَلْ تَلدُ الإِبلَ إِلاَّ النُّوقُ؟" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (40)
4/859 وروينا في كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:قالوا: يا رسولَ اللّه! إنك تداعبنا. قال: "إني لا أقُولُ إِلاَّ حَقَّاً" قال الترمذي: حديث حسن. (41)
5/860 وروينا في كتاب الترمذي، عن
ابن عباس رضي اللّه عنهما،عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "لا
تُمَارِ أخاكَ وَلا تُمازِحْهُ وَلا تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ".(42)
قال العلماء: المزاحُ المنهيُّ عنه، هو الذي فيه
إفراط ويُداوم عليه، فإنه يُورث الضحك وقسوةَ القلب، ويُشغل عن ذكر اللّه
تعالى والفكر في مهمات الدين، ويؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإِيذاء،
ويُورث الأحقاد، ويُسقطُ المهابةَ والوقارَ. فأما ما سَلِمَ من هذه
الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعله، فإنه
صلى اللّه عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة وتطييب نفس
المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منعَ منه قطعاً، بل هو سنّةٌ مستحبةٌ إذا كان
بهذه الصفة، فاعتمدْ ما نقلناه عن العلماء وحقَّقناه في هذه الأحاديث وبيان
أحكامها، فإنه مما يَعظمُ الاحتياجُ إليه، وباللّه التوفيق.
اعلم أنه تُستحبّ الشفاعة إلى ولاة الأمر وغيرهم من
أصحاب الحقوق والمستوفين لها ما لم تكن شفاعةً في حدٍّ أو شفاعةً في أمر لا
يجوز تركهُ؛ كالشفاعة إلى ناظرٍ على طفل أو مجنون أو وقف، أو نحو ذلك في
ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه كلُّها شفاعة محرّمة تحرم على الشافع،
ويحرم على المشفوع إليه قبولها، ويحرم على غيرهما السعي فيها إذا علمها؛
ودلائلُ جميع ما ذكرته ظاهرة في الكتاب والسنّة وأقوال علماء الأمة، قال
اللّه تعالى: {مَنْ
يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ
شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها، وكانَ اللَّهُ على كُلّ
شَيْءٍ مُقِيتاً} [النساء:85] المقيت: المقتدر
والمقدّر، هذا قول أهل اللغة، وهو محكيٌّ عن ابن عباس وآخرين من
المفسرين. وقال آخرون منهم المقيت: الحفيظ، وقيل المقيت: الذي عليه
قوت كل دابة ورزقها. وقال الكلبي: المقيت المجازي بالحسنة والسيئة،
وقيل المقيت الشهيد، وهو راجع إلى معنى الحفيظ. وأما الكِفْل فهو الحظ
والنصيب، وأما الشفاعة المذكورة في الآية: فالجمهور على أنها هذه الشفاعة
المعروفة، وهي شفاعة الناس بعضهم في بعض؛ وقيل الشفاعة الحسنة أن يشفع
إيمانه بأنه يقاتل الكفار، واللّه أعلم.
1/861 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال:كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا
أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: "اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا،
وَيَقْضِي اللَّه على لسانِ نَبِيِّهِ ما أحَبَّ" وفي رواية "ما شاءَ"
وفي رواية أبي داود "اشْفَعُوا إِليَّ لِتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ
على لِسانِ نَبِيِّهِ ما شاءَ" وهذه الرواية توضّح معنى رواية
الصحيحين. (43)
2/862 وروينا في صحيح البخاري،عن
ابن عباس رضي اللّه عنهما في قصة بريرة وزوجها، قال: قال لها النبيّ صلى
اللّه عليه وسلم: "لَوْ رَاجعتِيهِ؟ قالت: يا رسول اللّه
تأمرني؟ قال: إنما أشْفَعُ، قالتْ: لا حاجةَ لي فيه".(44)
3/863 وروينا في صحيح البخاري،عن
ابن عباس، قال: لما قَدِمَ عيينةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر نزلَ على ابن
أخيه الحرّ بن قيس، وكانَ من النفر الذين يُدنيهم عمرُ رضي اللّه عنه، فقال
عيينة: يا بن أخي! لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ
له عمرَ، فلما دخل قال: هي يا بن الخطاب! فو اللّه ما تُعطينا الجزلَ
ولا تحكمُ بيننا بالعدل، فغضبَ عمر حتى همّ أن يُوقع به، فقال الحرّ: يا
أميرَ المؤمنين! إن اللّه عزّ وجلّ قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ، وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلين} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فو اللّه ما جاوزها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللّه تعالى. (45)
قال اللّه تعالى: {فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهُو قائِمٌ يُصلّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39] وقال تعالى: {ولمَّا جاءتْ رُسُلُنا إبرَاهِيمَ بالبُشْرَى} [العنكبوت:31] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى} [هود:69] وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيمٍ} [الصَّافات:101] وقال تعالى: {قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] وقال تعالى: {قالُوا لا تَوْجَلْ إنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53] وقال تعالى: {وَامْرأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بإسْحَقَ وَمنْ وَرَاءِ إسْحَقَ يَعْقُوبََ} [هود:71] وقال تعالى: {إِذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} الآية[آل عمران:45]، وقال تعالى: {ذلكَ الَّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عبادَهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحات} [الشورى:23] وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ} [الزمر:17ـ18] وقال تعالى: {وَأبْشِرُوا بالجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصّلت:30] وقال تعالى: {يَوْمَ
تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وبأيمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها
الأنْهَارُ} [الحديد:12] وقال تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21].
وأما الأحاديث الواردة في البشارة فكثيرة جداً في الصحيح مشهورة، فمنها حديث تبشير خديجة رضي اللّه عنها ببيت في الجنة من قصب لا نصبَ فيه ولا صخب (46) . ومنها حديث كعب بن مالك رضي اللّه عنه المخرّج في الصحيحين (47)
في قصة توبته قال: سمعت صوت صارخ يقولُ بأعلى صوته: يا كعبَ بن مالك
أبشر، فذهبَ الناسُ يبشروننا، وانطلقتُ أتأمّم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم يتلقاني الناسُ فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: ليهنئك توبةُ
اللّه تعالى عليك حتى دخلتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم حولَه الناس، فقام طلحةُ بن عبيد اللّه يُهرول حتى صافحني وهنّأني،
وكان كعبٌ لا ينساها لطلحة؛ قال كعبُ: فلما سلَّمتُ على رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم قال وهو يُبْرقُ وجهُه من السرور: "أبْشِرْ بِخَيْرِ
يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمُّكَ".
1/864 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لقيه وهو جُنُب،
فانسلَّ فذهبَ فاغتسلَ، فتفقَّده النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلما جاء
قال: "أيْنَ كُنْتَ يا أبا هُرَيْرَةَ؟!" قال: يا رسول
اللّه! لقيتني وأنا جُنُب فكرهتُ أن أُجالسَك حتى أغتسل، فقال:
"سُبْحانَ اللَّه! إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ".(48)
2/865 وروينا في صحيحيهما عن
عائشة رضي اللّه عنها:أن امرأة سألتِ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم عن
غسلها من الحيض، فأمرَها كيف تغتسلُ قال: "خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ
فَتَطَهَّري بِهَا، قالت: كيف أتطهرُ بها؟ قال: تَطَهرِي بِهَا،
قالت: كَيْفَ؟ قال: سبْحانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، فاجتذبتُها إليّ
فقلتُ: تتبعي أثرَ الدم".(49)
قلتُ: هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وباقيها روايات
مسلم بمعناه، والفِرصة بكسر الفاء وبالصاد المهملة: القطعة. والمسك
بكسر الميم: وهو الطيب المعروف، وقيل الميم مفتوحة، والمراد الجلد، وقيل
أقوال كثيرة: والمختار أنها تأخذ قليلاً من مسك فتجعله في قطنة أو صوفة
أو خرقة أو نحوها فتجعله في الفرج لتُطيِّبَ المحلّ وتزيلَ الرائحةَ
الكريهة؛ وقيل: إن المطلوب منه إسراع علوق الولد، وهو ضعيف، واللّه
أعلم.
3/866 وروينا في صحيح مسلم عن
أنس رضي اللّه عنه:أن أُختَ الرُّبَيِّع أُمّ حارثة جرحت إنساناً،
فاختصموا إلى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: "القِصَاصَ
القِصَاصَ". فقالت أُمّ الرُبَيِّع. يا رسول اللّه! أتقتصّ من
فلانة واللّه لا يُقتصُّ منها؟ فقال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم:
"سُبْحانَ اللَّهِ يا أُمَّ الرُبَيِّع! القِصَاصُ كتابُ اللّه"(50) قلتُ: أصل الحديث في الصحيحين، ولكن هذا المذكور لفظ مسلم وهو غرضنا هنا، والرُبَيِّع
بضم الراء وفتح الباء الموحدة وكسر الياء المشددة.
4/867 وروينا في صحيح مسلم، عن
عِمرانَ بن الحُصين رضي اللّه عنهما في حديثه الطويل: في قصة المرأة
التي أُسرت، فانفلتتْ وركبتْ ناقةَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ونذرتْ إن
نجّاها اللّه تعالى لتنحرنّها، فجاءت فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم، فقال: "سُبْحانَ اللّه! بِئْسَ ما جَزَتْها".(51)
5/868 وروينا
في صحيح مسلم،عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه، في حديث الاستئذان أنه
قال عمر رضي اللّه عنه... الحديث، وفي آخره: يا ابْنَ الخَطابِ!
لا تَكُونَنَّ عَذَاباً على أصْحابِ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،
قال: سبحانَ اللّه! إنما سمعتُ شيئاً فأحببتُ أن أتَثَبَّتَ. (52)
6/869 وروينا
في الصحيحين في حديث عبد اللّه بن سلام الطويل لما قيل:إنك من أهل
الجنة، قال: سبحان اللّه! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لم يعلم، وذكر
الحديث. (53)
هذا الباب أهمُّ الأبواب، أو من أهمِّها لكثرة النصوص
الواردة فيه، لعظم موقعه وشدّة الاهتمام به، وكثرة تساهل أكثر الناس فيه،
ولا يمكن استقصاء ما فيه هنا لكن لا نخلّ بشيء من أصوله، وقد صنَّفَ
العلماء فيه متفرّقات، وقد جمعتُ قطعةً منه في أوائل شرح صحيح مسلم، ونبّهت
فيه على مهمات لا يُستغنى عن معرفتها، قال اللّه تعالى: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ؛ ويأْمرونَ بالمَعْروفِ
وَيَنْهَوْنَ عَن المنكَر وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقال تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ} [الأعراف:199] وقال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ والمُؤْمناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ، يأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة:71] وقال تعالى: {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] والآيات بمعنى ما ذكرته مشهورة.
1/870 وروينا في صحيح مسلم، عن
أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال:سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه
وسلم يقول: "مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ،
فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ،
وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ".(54)
2/871 وروينا في كتاب الترمذي، عن
حذيفة رضي اللّه عنه،عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ
المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ تَعالى أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عِقاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجَابَ لَكُمْ" قال الترمذي: حديث حسن. (55)
3/872 وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بأسانيد صحيحةعن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال: يا أيّها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ }[المائدة:105]
وإني سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إِنَّ النَّاسَ
إذَا رأوا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا على يَدَيْهِ أوْشَكَ أنْ
يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ مِنْهُ".(56)
4/873 وروينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، عن أبي سعيد،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "أفْضَلُ الجهادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عنْدَ سُلْطَانٍ جائرٍ"، قال الترمذي: حديث حسن. (57)
قلت: والأحاديثُ في الباب أشهر من أن تُذكر، وهذه
الآية الكريمة مما يَغترّ بها كثير من الجاهلين ويحملونها على غير وجهها،
بل الصواب في معناها: أنكم إذا فعلتم ما أُمرتم به فلا يَضرّكم ضَلالةُ
مَن ضلّ. ومن جملة ما أمروا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية
قريبة المعنى من قوله تعالى: {ما على الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ} [العنكبوت:18].
واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط
وصفات معروفة ليس هذا موضع بسطها، وأحسنُ مظانّها إحياء علوم الدين، وقد
أوضحتُ مهماتها في شرح مسلم، وباللّه التوفيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق