فصل: في الإِشارة إلى بعض ما جرى من الطاعون في الإِسلام
والمقصود بذكره هنا التصبّر والحمل على التأسّي، وأن مصيبة الإِنسان قليلة بالنسبة إلى ما جرى قبله.
قال أبو الحسن المدائني: كانت الطواعين المشهورة العظام في الإِسلام خمسة:
طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة ستّ من الهجرة.
ثم طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، ثم طاعون في زمن ابن الزبير في شوّال سنة تسع وستين، مات في ثلاثة أيام في كلّ يوم سبعون ألفاً، مات فيه لِأنس بن مالك رضي اللّه عنه: ثلاثة وثمانون ابناً، وقيل ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً.
ثم طاعون الفَتَيَات في شوّال سنة سبع وثمانين.
ثم طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة في رجب، واشتدّ في رمضان، وكان يُحصَى في سكة المِربد في كل يوم ألف جنازة، ثم خفّ في شوّال.
وكان بالكوفة طاعون سنة خمسين، وفيه: توفي المغيرة بن شعبة. هذا آخر كلام المدائني.
وذكر ابن قُتيبة في كتابه "المعارف" عن الأصمعي في عدد الطواعين نحو هذا، وفيه زيادة ونقص. قال: وسمي طاعون الفتيات لأنه بدأ في العذارى بالبصرة وواسط والشام والكوفة، ويقال له: طاعون الأشراف لِما مات فيه من الأشراف. قال: ولم يقع بالمدينة ولا مكة طاعون قطّ.
وهذا الباب واسع، وفيما ذكرته تنبيهٌ على ما تركته، وقد ذكرتُ هذا الفصل أبسط من هذا في أوّل شرح صحيح مسلم رحمه اللّه، وباللّه التوفيق.
ـ بابُ جَواز إعلامِ أصحاب الميّتِ وقرابتِه (1)(في أ : وأقاربه ) " بموتِه وكراهةِ النَّعي
1/405 روينا في كتاب الترمذي وابن ماجه، عن حذيفة رضي اللّه عنه قال:
إذا مِتُّ فلا تُؤذنوا بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينهى عن النعي. قال الترمذي: حديث حسن. (الترمذي (986) ، وابن ماجه (1476) ، وإسناده حسن) (2)
2/406 وروينا في كتاب الترمذي، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ، فإنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ" وفي رواية عن عبد اللّه ولم يرفعه. قال الترمذي: هذا أصحّ من المرفوع، وضعَّف الترمذي الروايتين. الترمذي (984)(3)
3/407 وروينا في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعى النجاشي إلى أصحابه.
وروينا في الصحيحين (البخاري (1377) ، ومسلم (956) ) ، أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال في ميت دفنوه بالليل ولم يعلم به: "أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟"..
قال العلماء المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم: يُستحبّ إعلامُ أهل الميت وقرابته وأصدقائه لهذين الحديثين. قالوا: النعيُ المنهي عنه إنما هو نعي الجاهلية، وكانت عادتهم إذا مات منهم شريفٌ بعثوا راكباً إلى القبائل يقول: نعايا فلان، أو يا نعايا العرب: أي هلكت العرب بمهلك فلان، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء.
وذكر صاحب "الحاوي" من أصحابنا وجهين لأصحابنا في استحباب الإِيذان بالميت وإشاعة موته بالنداء والإِعلام، فاستحبّ ذلك بعضهُم للميت الغريب والقريب، لما فيه من كثرة المصلّين عليه والدّاعين له. وقال بعضُهم: يُستحبّ ذلك للغريب ولا يُستحبّ لغيره. قلت: والمختار استحبابه مطلقاً إذا كان مجرّد إعلام (4)
ـ بابُ ما يُقالُ في حَالِ غُسْلِ الميّتِ وتَكفِينه
يُستحبّ الإِكثار من ذكر اللّه تعالى والدعاء للميت في حال غسله وتكفينه. قال أصحابنا: وإذا رأى الغاسلُ من الميّت ما يُعجبه من استنارة وجهه وطيب ريحه ونحو ذلك استُحبَّ له أن يحدّثَ الناس بذلك، وإذا رأى ما يَكره من سوادِ وجه، ونتْنِ رائحة، وتغيّر عضو، وانقلاب صورة، ونحو ذلك حرّم عليه أن يحدّث أحداً به، واحتجوا:
1/408 بما رويناه في سنن أبي داود والترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتاكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهِمْ" ( أبو داود (4900) ، والترمذي (1019) ، وهو حديث حسن بشواهده.) ضعفه الترمذي.
2/409 وروينا في "السنن الكبرى" للبيهقي، عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أرْبَعِينَ مَرَّةً". ( السنن الكبرى للبيهقي 3/395، والحاكم في المستدرك 1/354، وإسناده حسن.) ورواه الحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على الصحيحين، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
ثم إن جماهير أصحابنا أطلقوا المسألة كما ذكرته. وقال أبو الخير اليمني صاحب "البيان" منهم: لو كان الميت مبتدعاً مظهراً للبدعة، ورأى الغاسلُ منه ما يكره، فالذي يقتضيه القياس أن يتحدّث به في الناس ليكونَ ذلك زجراً للناس عن البدعة.
ـ بابُ أَذْكَارِ الصَّلاة على الميّت
اعلم أن الصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك غسله وتكفينه ودفنه، وهذا كلُّه مجمع عليه. وفيما يسقط به فرض الصلاة أربعة أوجه:
أصحّها عند أكثر أصحابنا يسقط بصلاة رجل واحد. والثاني: يُشترط اثنان. والثالث: ثلاثة. والرابع: أربعة؛ سواء صلُّوا جماعة أو فُرادى.
وأما كيفية هذه الصلاة فهي أن يكبرَ أربعَ تكبيرات ولا بُدَّ منها، فإن أخلَّ بواحدة لم تصحّ صلاته، وإن زاد خامسة ففي بطلان صلاته وجهان لأصحابنا: الأصحّ لا تبطل، ولو كان مأموماً فكبَّر إمامُه خامسة، فإن قلنا إن الخامسة تبطل الصلاة فارقه المأموم كما لو قام إلى ركعة خامسة. وإن قلنا بالأصحّ أنها لا تبطل لم يفارقه ولم يتابعه على الصحيح المشهور، وفيه وجه ضعيف لبعض أصحابنا أنه يتابعه، فإذا قلنا بالمذهب الصحيح أنه لا يتابعه فهل ينتظره ليسلّم معه، أم يسلّم في الحال؟ فيه وجهان: الأصحّ ينتظره، وقد أوضحتُ هذا كلَّه بشرحه ودلائله في "شرح المهذّب". ويستحبّ أن يرفعَ اليد مع كل تكبيرة.
وأما صفة التكبير وما يستحبّ فيه وما يبطله وغير ذلك من فروعه فعلى ما قدمته في باب صفة الصلاة وأذكارها.
وأما الأذكارُ التي تُقال في صلاة الجنازة بين التكبيرات، فيقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة، وبعد الثانية يُصلِّي على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وبعد الثالثة يدعو للميت، والواجب منه ما يقع عليه اسم الدعاء، وأما الرابعة فلا يجب بعدها ذكر أصلاً، ولكن يُستحبّ ما سأذكره إن شاء اللّه تعالى.
واختلف أصحابنا في استحباب التعوّذ ودعاء الافتتاح عقيب التكبيرة الأولى قبل الفاتحة وفي قراءة السورة بعد الفاتحة على ثلاثة أوجه: أحدُها يستحبّ الجميع، والثاني لا يُستحبّ، والثالث وهو الأصحّ أنه يُستحبّ التعوّذ دون الافتتاح والسورة. واتفقوا على أنه يستحبّ التأمين عقيب الفاتحة.
1/410 وروينا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنّة.
وقوله سنّة في معنى قول الصحابي: من السّنة كذا، وكذا جاء في سنن أبي داود قال: إنها من السنّة. فيكون مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما تقرّر وعُرف في كتب الحديث والأصول.
قال أصحابنا: والسنّة في قراءتها الإِسرار دون الجهر، سواء صُلِّيت ليلاً أو نهاراً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي قاله جماهير أصحابنا. وقال جماعة منهم: إن كانت الصلاة في النهار أسرّ، وإن كانت في الليل جهر. وأما التكبيرة الثانية فأقلّ الواجب عقيبها أن يقول: اللَّهُمَّ صَلّ على مُحَمَّدٍ، ويُستحبّ أن يقول: وعلى آلِ مُحَمَّدٍ. ولا يجب ذلك عند جماهير أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: يجب وهو شاذّ ضعيف.
ويستحبّ أن يدعو فيها للمؤمنين والمؤمنات إن اتسع الوقت له، نصّ عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، ونقل المزني (5) عن الشافعي يُستحبّ أيضاً أن يحمد اللّه عزّ وجلّ، فقال باستحبابه جماعات من الأصحاب وأنكره جمهورهم، فإذا قلنا باستحبابه بدأ بالحمد للّه، ثم بالصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ثم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، فلو خالف هذا الترتيب جاز وكان تاركاً للأفضل.
وجاءت أحاديث بالصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (6) رويناها في سنن البيهقي، ولكني قصدتُ اختصار هذا الباب، إذ موضعُ بسطه كتب الفقه، وقد أوضحته في شرح المهذب.
وأما التكبيرة الثالثة فيجب فيها الدعاء للميت، وأقلُّه ما ينطلق عليه الاسم كقوله: رحمه اللّه، أو غفر اللّه له، أو اللهمَّ اغفرْ له، أو ارحمه، أو الطفْ به ونحو ذلك.
وأما المستحبّ فجاءت فيه أحاديث وآثار؛ فأما الأحاديث فأصحّها:
2/411 ما رويناه في صحيح مسلم، عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه قال: صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وأكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بالمَاءِ والثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ منَ الخَطايا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأهْلاً خَيْراً مِنْ أهْلِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ أو مِنْ عَذَابِ النَّارِ" حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وفي رواية لمسلم "وَقِهِ فتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ" . (مسلم (963) (7)
3/412 وروينا في سنن أبي داود والترمذي والبيهقي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه صلّى على جنازة فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرنا، وَذَكَرِنا وأُنْثانا، وشَاهِدِنا وغائِبِنا؛ اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَه مِنَّا فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ على الإِيمان؛ اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ" (أبو داود (3201) ، ( والترمذي (1024) ، والبيهقي 4/41، والحاكم في المستدرك 1/358، والنسائي (1080) في "اليوم والليلة"، وإسناده صحيح. ) قال الحاكم أبو عبد اللّه: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. ورويناه في سنن البيهقي وغيره من رواية أبي قتادة. ورويناه في كتاب الترمذي من رواية أبي إبراهيم الأشهليّ (8) عن أبيه، وأبوه صحابي، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل، يعني البخاري: أصحُّ الروايات في حديث "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا" رواية أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه. قال البخاري: وأصحُّ شيء في الباب حديث عوف بن مالك. ووقع من رواية أبي داود "فأحْيِهِ على الإِيمَانِ، وَتَوفَّهُ على الإِسْلامِ" والمشهور في معظم كتب الحديث "فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَتَوَفَّهُ على الإِيمَانِ" كما قدّمناه.
4/413 وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم يقول: "إذا صَلَّيْتُمْ على المَيِّتِ فأخْلِصُوا لَهُ الدُّعاءَ". ( أبو داود (3199) ، وابن ماجه (1497) ، قال الحافظ: هذا حديث حسن. )
5/414 وروينا في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة على الجنازة "اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّهَا وأنْتَ خَلَقْتَها وأنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلام وأنْتَ قَبَضْتَ رُوحَها وأنْتَ أعْلَمُ بِسِرّها وَعَلانِيَتِهَا، جِئْنا شُفَعاءَ فاغْفِرْ لَهُ " (أبو داود (3200) ، وهو حديث حسن أخرجه النسائي في اليوم والليلة (1078) ، والطبراني في "الدعاء"، الفتوحات 4/176.)
6/415 وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه، عن واثلة بن الأسقع رضي اللّه عنه قال: صلّى بنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللَّهُمَّ إنَّ فُلانَ ابْنَ فُلانَة فِي ذِمَّتِكَ (9) وَحَبْلِ جوَارِكَ (10) ، فَقِهِ فِتْنَةَ القَبْر وَعَذَاب النَّارِ، وأنْتَ أهْلُ الوَفاءِ وَالحَمْدِ؛ اللَّهُمَّ فاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ". (أبو داود (3202) ، وابن ماجه (1499) ، وإسناده حسن.)
واختار الإِمام الشافعي رحمه اللّه دعاءً التقطه من مجموع هذه الأحاديث وغيرها فقال: يقول: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ، خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيا وَسَعَتِها، ومَحْبُوبُهُ وأحِبَّاؤُهُ فيها، إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ ومَا هُوَ لاقيهِ، كانَ يَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وأنْتَ أعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إنَّهُ نَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ به، وأصْبَحَ فَقيراً إلى رَحْمَتِكَ وأنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليك شُفَعَاءَ لَهُ؛ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ في إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَتَجاوَزْ عَنْهُ وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَافْسحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَجافِ الأرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حتَّى تَبْعَثَهُ إلى جَنَّتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! هذا نصّ الشافعي في "مختصر المزني" رحمهما اللّه.
قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه فقال: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُما فَرَطاً، واجْعَلْهُ لَهُما سَلَفاً، واجْعَلْهُ لَهُما ذُخْراً، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُما، وأفرغ الصَّبْرَ على قُلوبِهِما، وَلا تَفْتِنْهُما بَعْدَهُ وَلا تَحْرِمْهُما أجْرَهُ. هذا لفظ ما ذكره أبو عبد اللّه الزبيري من أصحابنا في كتابه "الكافي"، وقاله الباقون بمعناه، وبنحوه قالوا. ويقول معه: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، إلى آخره. قال الزبيري: فإن كانتْ امرأةً قال: "اللَّهُمَّ هَذِهِ أَمَتُكَ، ثم يُنَسِّقُ الكلام، واللّه أعلم.
وأما التكبيرة الرابعة فلا يجبُ بعدها ذكْرٌ بالاتفاق، ولكن يستحبّ أن يقول ما نصّ عليه الشافعي رحمه اللّه في كتاب "البويطي" قال: يقول في الرابعة: اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنا أجْرَهُ، وَلا تَفْتِنّا بَعْدَهُ. قال أبو عليّ بن أبي هريرة من أصحابنا: كان المتقدمون يقولون في الرابعة {رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201]. قال: وليس ذلك بمحكيّ عن الشافعي فإن فعله كان حسناً، قلت: يكفي في حسنه ما قد قدّمناه في حديث أنس في باب دعاء الكرب، واللّه أعلم.
قلتُ: ويُحتجّ للدعاء في الرابعة:
بما رويناه في السنن الكبرى للبيهقي (11) ، عن عبد اللّه بن أبي أوفى رضي اللّه عنهما؛ أنه كبّر على جنازة ابنه أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو، ثم قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصنع هكذا. وفي رواية: كبَّرَ أربعاً فمكثَ ساعةً حتى ظننا أنه سيكبّر خمساً، ثم سلَّم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصنعُ، أو هكذا صنعَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال الحاكم أبو عبد اللّه: هذا حديث صحيح.
فصل: وإذا فرغَ من التكبيرات وأذكارها سلَّمَ تسليمتين كسائر الصلوات، لما ذكرناه من حديث عبد اللّه بن أبي أوفى، وحكم السلام على ما ذكرناه في التسليم في سائر الصلوات، هذا هو المذهب الصحيح المختار، ولنا فيه هنا خلاف ضعيف تركته لعدم الحاجة إليه في هذا الكتاب، ولو جاء مسبوقٌ فأدرك الإِمامَ في بعض الصلاة أحرمَ معه في الحال وقرأ الفاتحة ثم ما بعدها على ترتيب نفسه، ولا يُوافق الإِمام فيما يقرؤه، فإن كبَّرَ ثم كبَّرَ الإِمامُ التكبيرة الأخرى قبل أن يتمكن المأموم من الذكر سقطَ عنه كما تسقط القراءةُ عن المسبوق في سائر الصلوات وإذا سلَّمَ الإِمامُ وقد بقي على المسبوق في الجنازة بعضُ التكبيرات لزمه أن يأتي بها مع أذكارها على الترتيب، هذا هو المذهبُ الصحيح المشهور عندنا. ولنا قول ضعيف أنه يأتي بالتكبيرات الباقيات متواليات بغير ذكر اللّه، واللّه أعلم.
ـ بابُ ما يقولُه الماشي مع الجَنَازة
يُستحبّ له أن يكون مشتغلاً بذكر اللّه تعالى، والفكر فيما يلقاه الميت وما يكون مصيرُه وحاصلُ ما كان فيه، وأن هذا آخرُ الدنيا ومصيرُ أهلها؛ وليحذرْ كلَّ الحذر من الحديث بما لا فائدةَ فيه، فإن هذا وقتُ فِكر وذكر تقبحُ فيه الغفلةُ واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلامَ بما لا فائدة فيه منهيٌّ عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال.
واعلم أن الصوابَ المختارَ ما كان عليه السلفُ رضي اللّه عنهم السكوتُ (12) في حال السير مع الجنازة فلا يُرفع صوتٌ بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكنُ لخاطره وأجمعُ لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوبُ في هذا الحال، فهذا هو الحقّ، ولا تغترّنّ بكثرة من يُخالفه، فقد قال أبو عليّ الفُضيل بن عِياض رضي اللّه عنه ما معناه: الزمْ طرقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قلّةُ السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين.
وقد روينا في سنن البيهقي (13) ما يقتضي ما قلته. وأما ما يفعله الجهلةُ من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه وفسق من تمكّن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القرّاء، واللّه المستعان.
ـ بابُ ما يقولُه مَنْ مرَّتْ به جنازة أو رآها
يستحبّ أن يقول: سُبْحانَ الحَيِّ الَّذي لا يَمُوتُ. وقال القاضي الإمام أبو المحاسن الروياني من أصحابنا في كتابه "البحر": يُستحبّ أن يدعوَ ويقول: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَيّ الَّذي لا يَمُوتُ، فيستحبّ أن يدعوَ لها ويثني عليها بالخير إن كانت أهلاً للثناء، ولا يُجازف في ثنائه.
ـ بابُ ما يقولُه مَن يُدْخِلْ الميّتَ قبرَه
1/416 روينا في سنن أبي داود والترمذي والبيهقي وغيرها، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال:" بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلى سُنَّة رَسُولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم" (أبو داود (3213) ، والترمذي (1046) ، والبيهقي 4/55. وصححه ابن حبّان، والحاكم، ووافقه الذهبي.) قال الترمذي: حديث حسن. قال الشافعي والأصحاب رحمهم اللّه: يُستحبّ أن يدعو للميت مع هذا.
ومن حسن الدعاء ما نصّ عليه الشافعي رحمه اللّه في "مختصر المزني" قال: يقول الذين يدخلونه القبر (14) : اللَّهُمَّ أسْلَمَهُ إلَيْكَ الأشِحَّاءُ (15) مِنْ أهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَقَرابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ، وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيا وَالحَياةِ إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، إنْ عاقَبْتَهُ فَبِذَنْبٍ، وإنْ عَفَوتَ عَنْهُ فأنْتَ أهْلُ العَفْوِ، أنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلى رَحْمَتِكَ؛ اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَتَهُ، وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ منْ عَذَابِكَ، واكْفِهِ كل هَوْلٍ دُونَ الجَنَّةِ؛ اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الغابِرِينَ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ" .
ـ بابُ ما يقولُه بعدَ الدَّفْن
السنّة لمن كان على القبر أن يحثي في القبر ثلاث حثيات بيديه جميعاً من قِبل رأسه. قال جماعة من أصحابنا: يُستحبّ أن يقول في الحثية الأولى: {مِنْها خَلَقْناكُم} وفي الثانية: {وفِيها نُعِيدُكُمْ} وفي الثالثة: {وَمِنْها نُخرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى} [طه:56]. ويُستحبّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعة قدر ما يُنحر جزور ويُقسم لحمُها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأحوال الصالحين.
1/417 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عليّ رضي اللّه عنه قال: كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقعدَ وقعدنا حولَه ومعه مِخصَرَة، فنكسَ وجعلَ ينكتُ بمخصرته، ثم قال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، فقالوا: يا رسول اللّه! أفلا نتكلُ على كتابنا؟ فقال: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" وذكر تمام الحديث. (البخاري (1362) ، ومسلم (2647) ، وأبو داود (4694) ، والترمذي (2137) و (3341) . (16))
2/418 وروينا في صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه قال :إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنسَ بكم وأنظرَ ماذا أراجعُ به رسلَ ربي.
3/419 وروينا في سنن أبي داود والبيهقي، بإسناد حسن، عن عثمان رضي اللّه عنه قال: كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغَ من دفن الميت وقفَ عليه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فإنَّهُ الآنَ يُسْألُ" (أبو داود (3221) ، والبيهقي 4/56، وحسّنه الحافظ.) قال الشافعي والأصحاب: يُستحبّ أن يقرؤوا عنده شيئاً من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كلَّه كان حسناً.
4/420 وروينا في سنن البيهقي بإسناد حسن؛ أن ابن عمر استحبَّ أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها.( البيهقي 4/56 وقال الحافظ: هذا موقوف حسن.)
فصل: وأما تلقينُ الميّت بعد الدفن فقد قال جماعة كثيرون من أصحابنا باستحبابه، وممّن نصَّ على استحبابه: القاضي حسين في تعليقه، وصاحبه أبو سعد المتولي في كتابه "التتمة"، والشيخ الإِمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، والإِمام أبو القاسم الرافعي وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن الأصحاب. وأما لفظه فقال الشيخ نصر: إذا فرغ من دفنه يقف عند رأسه ويقول: يا فلان بن فلان! ذكر العهد الذي خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أن لا إِلهَ إِلاَّ اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث مَن في القبور، قل رضيت باللّه ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم نبيًّا وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إماماً، وبالمسلمين إخواناً، ربّي اللّه لا إِلهَ إِلا هو، وهو ربّ العرش العظيم، هذا لفظ الشيخ نصر المقدسي في كتابه "التهذيب"، ولفظ الباقين بنحوه، وفي لفظ بعضهم نقص عنه، ثم منهم مَن يقول: يا عبد اللّه ابن أمة اللّه! ومنهم مَن يقول: يا عبد اللّه ابن حوّاء، ومنهم من يقول: يا فلان ـ باسمه ـ ابن أمة اللّه، أو يا فلان ابن حوّاء، وكله بمعنى.
وسُئل الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه اللّه عن هذا التلقين فقال في فتاويه: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به، وذكره جماعة من أصحابنا الخراسانيين قال: وقد روينا فيه حديثاً من حديث أبي أمامة ليس بالقائم إسناده (17) ، ولكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام به قديماً. قال: وأما تلقين الطفل الرضيع فما له مُستند يُعتمد ولا نراه، واللّه أعلم. قلتُ: الصواب أنه لا يلقن الصغير مطلقاً، سواء كان رضيعاً أو أكبر منه ما لم يبلغ ويصير مكلفاً، واللّه أعلم.
بابُ وصيّةِ الميّتِ أنّ يُصلِّيَ عليه إنسانٌ بعينه، أو أن يُدفن على صفةٍ مخصوصةٍ وفي مَوْضعٍ مَخصوص، وكذلك الكفنُ وغيرُه من أمورِه التي تُفعل والتي لا تُفعل
1/421 روينا في صحيح البخاري، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي اللّه عنه: يعني وهو مريض، فقال: في كم كفّنتم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؟ فقلت: في ثلاثة أثواب، قال: في أيّ يوم تُوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه به رَدْع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيها. قلت: إن هذا خَلَق، قال: إن الحيّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوفّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفن قبل أن يُصبحَ. (البخاري (1387) والموطأ بلاغاً 1/224(18).)
قلت: قولها رَدْع، بفتح الراء وإسكان الدال وبالعين المهملات: وهو الأثر. وقوله للمهلة، روي بضم الميم وفتحها وكسرها ثلاث لغات والهاء ساكنة: وهو الصديد الذي يتحلّل من بدن الميت.
2/422 وروينا في صحيح البخاري؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لما جُرِحَ: إذا أنا قُبِضتُ فاحملوني، ثم سلِّم وقلْ يستأذنُ عمر، فإن أذنتْ لي ـ يعني عائشةَ ـ فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين. (البخاري (1392) (19))
3/423 ـ وروينا في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: قال سعد: الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبنَ نصباً كما صُنع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. (مسلم (966) (20))
4/424 وروينا في صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه؛ أنه قال وهو في سياقة الموت: إذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. (مسلم (121) (21).)
قلت: قوله شنوا، روي بالسين المهملة وبالمعجمة، ومعناه: صبّوه قليلاً قليلاً.
وروينا في هذا المعنى حديث حذيفة المتقدم في باب إعلام أصحاب الميت بموته، وغير ذلك من الأحاديث، وفيما ذكرناه كفاية وباللّه التوفيق.
قلت: وينبغي أن لا يقلد الميتُ ويتابع في كلّ ما وصَّى به، بل يُعرض ذلك على أهل العلم، فما أباحوه فعل ما لا فلا. وأنا أذكر من ذلك أمثلة، فإذا أوصى بأن يدفن في موضع من مقابر بلدته، وذلك الموضع معدن الأخيار فينبغي أن يُحافظ على وصيته، وإذا أوصى بأن يُصلِّي عليه أجنبي فهل يُقَدَّم في الصلاة على أقارب الميت؟ فيه خلاف للعلماء، والصحيح في مذهبنا أن القريب أولى، لكن إن كان الموصَى له ممّن يُنسب إلى الصلاح أو البراعة في العلم مع الصيانة والذكر الحسن، استحبّ للقريب الذي ليس هو في مثل حاله إيثاره رعاية لحقّ الميت، وإذا أوصى بأن يُدفن في تابوت لم تنفذ وصيته، إلا أن تكون الأرض رخوة، أو نديّة يحتاج فيها إليه، فتُنفذ وصيّته فيه ويكون من رأس المال؛ كالكفن. وإذا أوصى بأن يُنقل إلى بلد آخر لا تنفّذ وصيّته، فإن النقل حرامٌ على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرن وصرّح به المحققون، وقيل: مكروه.
قال الشافعي رحمه اللّه: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيُنقل إليها لبركتها. وإذا أوصى بأن يُدفَن تحته مِضربة أو مخدة تحتَ رأسه أو نحو ذلك لم تُنفذ وصيّته. وكذا إذا أوصى بأن يُكفَّن في حرير، فإن تكفينَ الرجال في الحرير حرام، وتكفينُ النساء فيه مكروه وليس بحرام، والخنثى في هذا كالرجل. ولو أوصى بأن يُكَفَّن فيما زاد على عدد الكفن المشروع أو في ثوب لا يَستر البدن لا تنفذ وصيّته. ولو أوصى بأن يُقرأ عند قبره أو يُتصدّق عنه وغير ذلك من أنواع القرب، نُفِّذَتْ إلا أن يقترن بها ما يمنع الشرع منها بسببه. ولو أوصى بأن تُؤَخَّرَ جنازته زائداً على المشروع لم تنفذ. ولو أوصى بأن يُبنى عليه في مقبرة مسبَّلة للمسلمين لم تنفّذ وصيته، بل ذلك حرام.
بابُ ما ينفعُ الميّتَ من قَوْل غيره
أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويَصلُهم (22) . واحتجّوا بقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الَّذين سَبَقُونا بالإِيمَانِ}[الحشر:10] وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها، وفي الأحاديث المشهورة كقوله صلى اللّه عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ" (مسلم (974) ) وكقوله صلى اللّه عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنَا" (أبو داود (3201) ) وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يَصل. وذهب أحمدُ بن حنبل وجماعةٌ من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يَصل، والاختيار أن يقولَ القارئُ بعد فراغه: "اللهمّ أوصلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان، واللّه أعلم. ويُستحبّ الثناء على الميت وذكر محاسنه.
1/425ـ وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "وَجَبَتْ" ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا ، فقال: "وَجَبَتْ" فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما وجبت؟ قال: "هَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرَاً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّه في الأرْضِ". (البخاري (1367) ، ومسلم (949) ، والترمذي (1058) ، والنسائي 4/49ـ50.)
2/426 وروينا في صحيح البخاري، عن أبي الأسود قال:قدمتُ المدينةَ فجلستُ إلى عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه، فمرّتْ بهم جنازة، فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بأخرى فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بالثالثة فأُثني على صاحبها شرٌّ فقالَ عمرُ: وجبتْ؛ قال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال: قلتُ كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم:"أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ" فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وَثَلاَثَةٌ" فقلنا: واثنان، قال: "وَاثْنانِ"، ثم لم نسأله عن الواحد. (البخاري (1368) ، والترمذي (1059) ، والنسائي 4/51.) والأحاديث بنحو ما ذكرنا كثيرة، واللّه أعلم.
بابُ النّهي عن سبِّ الأمْوَات
1/427 روينا في صحيح البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ فإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا". (البخاري (1393) ، وأبو داود (4899) ، والنسائي 4/52ـ63. (23))
2/428 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، بإسناد ضعيف ضعَّفه الترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "اذْكُرُوا مَحاسنَ مَوْتاكُمْ، وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهمْ". (أبوداود (4900) ، والترمذي (1019) (24))
قلت: قال العلماء: يَحرم سبُّ الميت المسلم الذي ليس معلناً بفسقه. وأما الكافرُ والمُعلِنُ بفسقه من المسلمين ففيه خلاف للسلف وجاءت فيه نصوص متقابلة، وحاصلُه أنه ثبت في النهي عن سبّ الأموات ما ذكرناه في هذا الباب.
وجاء في الترخيص في سبّ الأشرار أشياء كثيرة، منها ما قصَّه اللَّهُ علينا في كتابه العزيز وأمرنا بتلاوته وإشاعة قراءته؛ ومنها أحاديثُ كثيرة في الصحيح، كالحديث الذي ذكر فيه صلى اللّه عليه وسلم عمروَ بن لحيّ، وقصة أبي رِغال (25) ، والذي كان يسرقُ الحاجَّ بمحجنه (26) ، وقصة ابن جُدْعان (27) وغيرهم، ومنها الحديث الصحيح الذي قدّمناه لما مرّت جنازة فأثنوا عليها شرّاً فلم ينكر عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بل قال: "وجبتْ".
واختلف العلماءُ في الجمع بين هذه النصوص على أقوال أصحُّها وأظهرُها أن أمواتَ الكفار يجوز ذكر مساويهم. وأما أمواتُ المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما، فيجوز ذكرُهم بذلك إذا كان فيه مصلحة لحاجة إليه للتحذير من حالهم، والتنفير من قبول ما قالوه والاقتداء بهم فيما فعلوه، وإن لم تكن حاجة لم يجزْ؛ وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ هذه النصوص، وقد أجمعَ العلماءُ على جرح المجروح من الرواة، واللّه أعلم.
بابُ ما يقولُه زائرُ القبور
1/429 روينا في صحيح مسلم، عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلّمَا كان ليلتُها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرجُ من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَأتاكُمْ ما تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلُونَ، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحقُونَ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ". (مسلم (974) ، والنسائي 4/93، وفي "اليوم والليلة" (1092) (28))
2/430 وروينا في صحيح مسلم، عن عائشة أيضاً أنها قالت: كيف أقولُ يا رسولَ اللّه؟! ـ تعني في زيارة القبور ـ قال: "قُولي: السَّلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنَ المُؤْمنينَ وَالمُسْلمينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَمِنَّا وَالمُسْتأخِرِين، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّه بِكُمْ لاحِقُونَ". (مسلم (974) (103) (29))
3/431 ورَوينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي هُريرة رضيَ اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السَّلامُ عَلَيكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ". (أبو داود (3237) ، والنسائي 4/91، وابن ماجه (4306) (30))
4/432 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقبور أهل المدينة، فأقبلَ عليهم بوجهه فقال: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أهْلَ القُبُورِ! يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أنْتُمْ سَلَفُنا وَنَحْنُ بالأثَرِ" ( الترمذي (1053) ، وإسناده حسن.) قال الترمذي: حديث حسن.
5/433 وروينا في صحيح مسلم، عن بريدة رضي اللّه عنه قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الدّيارِ مِنَ المؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ، أسألُ اللَّهُ لَنَا ولَكُمُ العافيَةَ". ورويناه في كتاب النسائي وابن ماجه هكذا، وزاد بعد قوله: للاحقون: "أنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ". (مسلم (975) ، والنسائي 4/94، وابن ماجه (1547) ، وهو عند النسائي في "اليوم والليلة" (1091)(31).)
6/434 وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي اللّه عنها؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أتى البقيعَ فقال:"السَّلامُ عَلَيْكُمْ دار قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أنْتُمْ لَنا فَرَطٌ، وإنَّا بِكُمْ لاحِقُونَ؛ اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُمْ وَلا تُضِلَّنا بَعْدَهُمْ". (ابن السني (596) (32))
ويُستحب للزائر الإِكثار من قراءة القرآن والذكر، والدعاء لأهل تلك المقبرة وسائر الموتى والمسلمين أجمعين. ويُستحبّ الإِكثار من الزيارة، وأن يكثرَ الوقوفَ عند قبور أهل الخير والفضل.
بابُ نهي الزائر مَنْ رآه يبكي جزعاً عند قبر، وأمرِه إِيَّاه بالصبرِ ونهيِهِ أيضاً عن غير ذلك مما نهى الشرعُ عنه
1/435 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال: مرّ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقي اللَّهَ وَاصْبِرِي". (البخاري (1283) ، ومسلم (926). )
2/436 وروينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، بإسناد حسن، عن بشير بن معبد ـ المعروف بابن الخصاصية ـ رضي اللّه عنه قال: بينما أنا أُماشي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم نظر فإذا رجل يمشي بين القبور عليه نعلان، فقال: "يا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ ألْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ" وذكر تمام الحديث. (أبو داود (3230) ، والنسائي 4/296، وابن ماجه (1568) . (33)
قلت: السِّبتية: النعل الذي لا شعر عليها، وهي بكسر السين المهملة وإسكان الباء الموحدة. وقد أجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودلائله في الكتاب والسنّة مشهورة، واللّه أعلم.
بابُ البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم وإظهار الافتقار إلى اللّه تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك
1/437 روينا في صحيح البخاري، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه ـ يعني لما وصلوا الحِجْرَ ديارَ ثمود ـ: "لا تَدْخُلُوا على هَؤُلاءِ المُعَذَّبينَ إِلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا باكينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لا يُصيبُكُم ما أصَابَهُمْ".(البخاري (433) ، وهو في صحيح مسلم أيضاً (2980)
اقرأ بعده
والمقصود بذكره هنا التصبّر والحمل على التأسّي، وأن مصيبة الإِنسان قليلة بالنسبة إلى ما جرى قبله.
قال أبو الحسن المدائني: كانت الطواعين المشهورة العظام في الإِسلام خمسة:
طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة ستّ من الهجرة.
ثم طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، ثم طاعون في زمن ابن الزبير في شوّال سنة تسع وستين، مات في ثلاثة أيام في كلّ يوم سبعون ألفاً، مات فيه لِأنس بن مالك رضي اللّه عنه: ثلاثة وثمانون ابناً، وقيل ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً.
ثم طاعون الفَتَيَات في شوّال سنة سبع وثمانين.
ثم طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة في رجب، واشتدّ في رمضان، وكان يُحصَى في سكة المِربد في كل يوم ألف جنازة، ثم خفّ في شوّال.
وكان بالكوفة طاعون سنة خمسين، وفيه: توفي المغيرة بن شعبة. هذا آخر كلام المدائني.
وذكر ابن قُتيبة في كتابه "المعارف" عن الأصمعي في عدد الطواعين نحو هذا، وفيه زيادة ونقص. قال: وسمي طاعون الفتيات لأنه بدأ في العذارى بالبصرة وواسط والشام والكوفة، ويقال له: طاعون الأشراف لِما مات فيه من الأشراف. قال: ولم يقع بالمدينة ولا مكة طاعون قطّ.
وهذا الباب واسع، وفيما ذكرته تنبيهٌ على ما تركته، وقد ذكرتُ هذا الفصل أبسط من هذا في أوّل شرح صحيح مسلم رحمه اللّه، وباللّه التوفيق.
ـ بابُ جَواز إعلامِ أصحاب الميّتِ وقرابتِه (1)(في أ : وأقاربه ) " بموتِه وكراهةِ النَّعي
1/405 روينا في كتاب الترمذي وابن ماجه، عن حذيفة رضي اللّه عنه قال:
إذا مِتُّ فلا تُؤذنوا بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينهى عن النعي. قال الترمذي: حديث حسن. (الترمذي (986) ، وابن ماجه (1476) ، وإسناده حسن) (2)
2/406 وروينا في كتاب الترمذي، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ، فإنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ" وفي رواية عن عبد اللّه ولم يرفعه. قال الترمذي: هذا أصحّ من المرفوع، وضعَّف الترمذي الروايتين. الترمذي (984)(3)
3/407 وروينا في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعى النجاشي إلى أصحابه.
وروينا في الصحيحين (البخاري (1377) ، ومسلم (956) ) ، أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال في ميت دفنوه بالليل ولم يعلم به: "أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟"..
قال العلماء المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم: يُستحبّ إعلامُ أهل الميت وقرابته وأصدقائه لهذين الحديثين. قالوا: النعيُ المنهي عنه إنما هو نعي الجاهلية، وكانت عادتهم إذا مات منهم شريفٌ بعثوا راكباً إلى القبائل يقول: نعايا فلان، أو يا نعايا العرب: أي هلكت العرب بمهلك فلان، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء.
وذكر صاحب "الحاوي" من أصحابنا وجهين لأصحابنا في استحباب الإِيذان بالميت وإشاعة موته بالنداء والإِعلام، فاستحبّ ذلك بعضهُم للميت الغريب والقريب، لما فيه من كثرة المصلّين عليه والدّاعين له. وقال بعضُهم: يُستحبّ ذلك للغريب ولا يُستحبّ لغيره. قلت: والمختار استحبابه مطلقاً إذا كان مجرّد إعلام (4)
ـ بابُ ما يُقالُ في حَالِ غُسْلِ الميّتِ وتَكفِينه
يُستحبّ الإِكثار من ذكر اللّه تعالى والدعاء للميت في حال غسله وتكفينه. قال أصحابنا: وإذا رأى الغاسلُ من الميّت ما يُعجبه من استنارة وجهه وطيب ريحه ونحو ذلك استُحبَّ له أن يحدّثَ الناس بذلك، وإذا رأى ما يَكره من سوادِ وجه، ونتْنِ رائحة، وتغيّر عضو، وانقلاب صورة، ونحو ذلك حرّم عليه أن يحدّث أحداً به، واحتجوا:
1/408 بما رويناه في سنن أبي داود والترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتاكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهِمْ" ( أبو داود (4900) ، والترمذي (1019) ، وهو حديث حسن بشواهده.) ضعفه الترمذي.
2/409 وروينا في "السنن الكبرى" للبيهقي، عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أرْبَعِينَ مَرَّةً". ( السنن الكبرى للبيهقي 3/395، والحاكم في المستدرك 1/354، وإسناده حسن.) ورواه الحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على الصحيحين، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
ثم إن جماهير أصحابنا أطلقوا المسألة كما ذكرته. وقال أبو الخير اليمني صاحب "البيان" منهم: لو كان الميت مبتدعاً مظهراً للبدعة، ورأى الغاسلُ منه ما يكره، فالذي يقتضيه القياس أن يتحدّث به في الناس ليكونَ ذلك زجراً للناس عن البدعة.
ـ بابُ أَذْكَارِ الصَّلاة على الميّت
اعلم أن الصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك غسله وتكفينه ودفنه، وهذا كلُّه مجمع عليه. وفيما يسقط به فرض الصلاة أربعة أوجه:
أصحّها عند أكثر أصحابنا يسقط بصلاة رجل واحد. والثاني: يُشترط اثنان. والثالث: ثلاثة. والرابع: أربعة؛ سواء صلُّوا جماعة أو فُرادى.
وأما كيفية هذه الصلاة فهي أن يكبرَ أربعَ تكبيرات ولا بُدَّ منها، فإن أخلَّ بواحدة لم تصحّ صلاته، وإن زاد خامسة ففي بطلان صلاته وجهان لأصحابنا: الأصحّ لا تبطل، ولو كان مأموماً فكبَّر إمامُه خامسة، فإن قلنا إن الخامسة تبطل الصلاة فارقه المأموم كما لو قام إلى ركعة خامسة. وإن قلنا بالأصحّ أنها لا تبطل لم يفارقه ولم يتابعه على الصحيح المشهور، وفيه وجه ضعيف لبعض أصحابنا أنه يتابعه، فإذا قلنا بالمذهب الصحيح أنه لا يتابعه فهل ينتظره ليسلّم معه، أم يسلّم في الحال؟ فيه وجهان: الأصحّ ينتظره، وقد أوضحتُ هذا كلَّه بشرحه ودلائله في "شرح المهذّب". ويستحبّ أن يرفعَ اليد مع كل تكبيرة.
وأما صفة التكبير وما يستحبّ فيه وما يبطله وغير ذلك من فروعه فعلى ما قدمته في باب صفة الصلاة وأذكارها.
وأما الأذكارُ التي تُقال في صلاة الجنازة بين التكبيرات، فيقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة، وبعد الثانية يُصلِّي على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وبعد الثالثة يدعو للميت، والواجب منه ما يقع عليه اسم الدعاء، وأما الرابعة فلا يجب بعدها ذكر أصلاً، ولكن يُستحبّ ما سأذكره إن شاء اللّه تعالى.
واختلف أصحابنا في استحباب التعوّذ ودعاء الافتتاح عقيب التكبيرة الأولى قبل الفاتحة وفي قراءة السورة بعد الفاتحة على ثلاثة أوجه: أحدُها يستحبّ الجميع، والثاني لا يُستحبّ، والثالث وهو الأصحّ أنه يُستحبّ التعوّذ دون الافتتاح والسورة. واتفقوا على أنه يستحبّ التأمين عقيب الفاتحة.
1/410 وروينا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنّة.
وقوله سنّة في معنى قول الصحابي: من السّنة كذا، وكذا جاء في سنن أبي داود قال: إنها من السنّة. فيكون مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما تقرّر وعُرف في كتب الحديث والأصول.
قال أصحابنا: والسنّة في قراءتها الإِسرار دون الجهر، سواء صُلِّيت ليلاً أو نهاراً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي قاله جماهير أصحابنا. وقال جماعة منهم: إن كانت الصلاة في النهار أسرّ، وإن كانت في الليل جهر. وأما التكبيرة الثانية فأقلّ الواجب عقيبها أن يقول: اللَّهُمَّ صَلّ على مُحَمَّدٍ، ويُستحبّ أن يقول: وعلى آلِ مُحَمَّدٍ. ولا يجب ذلك عند جماهير أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: يجب وهو شاذّ ضعيف.
ويستحبّ أن يدعو فيها للمؤمنين والمؤمنات إن اتسع الوقت له، نصّ عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، ونقل المزني (5) عن الشافعي يُستحبّ أيضاً أن يحمد اللّه عزّ وجلّ، فقال باستحبابه جماعات من الأصحاب وأنكره جمهورهم، فإذا قلنا باستحبابه بدأ بالحمد للّه، ثم بالصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ثم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، فلو خالف هذا الترتيب جاز وكان تاركاً للأفضل.
وجاءت أحاديث بالصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (6) رويناها في سنن البيهقي، ولكني قصدتُ اختصار هذا الباب، إذ موضعُ بسطه كتب الفقه، وقد أوضحته في شرح المهذب.
وأما التكبيرة الثالثة فيجب فيها الدعاء للميت، وأقلُّه ما ينطلق عليه الاسم كقوله: رحمه اللّه، أو غفر اللّه له، أو اللهمَّ اغفرْ له، أو ارحمه، أو الطفْ به ونحو ذلك.
وأما المستحبّ فجاءت فيه أحاديث وآثار؛ فأما الأحاديث فأصحّها:
2/411 ما رويناه في صحيح مسلم، عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه قال: صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وأكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بالمَاءِ والثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ منَ الخَطايا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأهْلاً خَيْراً مِنْ أهْلِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ أو مِنْ عَذَابِ النَّارِ" حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وفي رواية لمسلم "وَقِهِ فتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ" . (مسلم (963) (7)
3/412 وروينا في سنن أبي داود والترمذي والبيهقي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه صلّى على جنازة فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرنا، وَذَكَرِنا وأُنْثانا، وشَاهِدِنا وغائِبِنا؛ اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَه مِنَّا فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ على الإِيمان؛ اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ" (أبو داود (3201) ، ( والترمذي (1024) ، والبيهقي 4/41، والحاكم في المستدرك 1/358، والنسائي (1080) في "اليوم والليلة"، وإسناده صحيح. ) قال الحاكم أبو عبد اللّه: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. ورويناه في سنن البيهقي وغيره من رواية أبي قتادة. ورويناه في كتاب الترمذي من رواية أبي إبراهيم الأشهليّ (8) عن أبيه، وأبوه صحابي، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل، يعني البخاري: أصحُّ الروايات في حديث "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا" رواية أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه. قال البخاري: وأصحُّ شيء في الباب حديث عوف بن مالك. ووقع من رواية أبي داود "فأحْيِهِ على الإِيمَانِ، وَتَوفَّهُ على الإِسْلامِ" والمشهور في معظم كتب الحديث "فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَتَوَفَّهُ على الإِيمَانِ" كما قدّمناه.
4/413 وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم يقول: "إذا صَلَّيْتُمْ على المَيِّتِ فأخْلِصُوا لَهُ الدُّعاءَ". ( أبو داود (3199) ، وابن ماجه (1497) ، قال الحافظ: هذا حديث حسن. )
5/414 وروينا في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة على الجنازة "اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّهَا وأنْتَ خَلَقْتَها وأنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلام وأنْتَ قَبَضْتَ رُوحَها وأنْتَ أعْلَمُ بِسِرّها وَعَلانِيَتِهَا، جِئْنا شُفَعاءَ فاغْفِرْ لَهُ " (أبو داود (3200) ، وهو حديث حسن أخرجه النسائي في اليوم والليلة (1078) ، والطبراني في "الدعاء"، الفتوحات 4/176.)
6/415 وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه، عن واثلة بن الأسقع رضي اللّه عنه قال: صلّى بنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللَّهُمَّ إنَّ فُلانَ ابْنَ فُلانَة فِي ذِمَّتِكَ (9) وَحَبْلِ جوَارِكَ (10) ، فَقِهِ فِتْنَةَ القَبْر وَعَذَاب النَّارِ، وأنْتَ أهْلُ الوَفاءِ وَالحَمْدِ؛ اللَّهُمَّ فاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ". (أبو داود (3202) ، وابن ماجه (1499) ، وإسناده حسن.)
واختار الإِمام الشافعي رحمه اللّه دعاءً التقطه من مجموع هذه الأحاديث وغيرها فقال: يقول: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ، خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيا وَسَعَتِها، ومَحْبُوبُهُ وأحِبَّاؤُهُ فيها، إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ ومَا هُوَ لاقيهِ، كانَ يَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وأنْتَ أعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إنَّهُ نَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ به، وأصْبَحَ فَقيراً إلى رَحْمَتِكَ وأنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليك شُفَعَاءَ لَهُ؛ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ في إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَتَجاوَزْ عَنْهُ وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَافْسحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَجافِ الأرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حتَّى تَبْعَثَهُ إلى جَنَّتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! هذا نصّ الشافعي في "مختصر المزني" رحمهما اللّه.
قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه فقال: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُما فَرَطاً، واجْعَلْهُ لَهُما سَلَفاً، واجْعَلْهُ لَهُما ذُخْراً، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُما، وأفرغ الصَّبْرَ على قُلوبِهِما، وَلا تَفْتِنْهُما بَعْدَهُ وَلا تَحْرِمْهُما أجْرَهُ. هذا لفظ ما ذكره أبو عبد اللّه الزبيري من أصحابنا في كتابه "الكافي"، وقاله الباقون بمعناه، وبنحوه قالوا. ويقول معه: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، إلى آخره. قال الزبيري: فإن كانتْ امرأةً قال: "اللَّهُمَّ هَذِهِ أَمَتُكَ، ثم يُنَسِّقُ الكلام، واللّه أعلم.
وأما التكبيرة الرابعة فلا يجبُ بعدها ذكْرٌ بالاتفاق، ولكن يستحبّ أن يقول ما نصّ عليه الشافعي رحمه اللّه في كتاب "البويطي" قال: يقول في الرابعة: اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنا أجْرَهُ، وَلا تَفْتِنّا بَعْدَهُ. قال أبو عليّ بن أبي هريرة من أصحابنا: كان المتقدمون يقولون في الرابعة {رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201]. قال: وليس ذلك بمحكيّ عن الشافعي فإن فعله كان حسناً، قلت: يكفي في حسنه ما قد قدّمناه في حديث أنس في باب دعاء الكرب، واللّه أعلم.
قلتُ: ويُحتجّ للدعاء في الرابعة:
بما رويناه في السنن الكبرى للبيهقي (11) ، عن عبد اللّه بن أبي أوفى رضي اللّه عنهما؛ أنه كبّر على جنازة ابنه أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو، ثم قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصنع هكذا. وفي رواية: كبَّرَ أربعاً فمكثَ ساعةً حتى ظننا أنه سيكبّر خمساً، ثم سلَّم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصنعُ، أو هكذا صنعَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال الحاكم أبو عبد اللّه: هذا حديث صحيح.
فصل: وإذا فرغَ من التكبيرات وأذكارها سلَّمَ تسليمتين كسائر الصلوات، لما ذكرناه من حديث عبد اللّه بن أبي أوفى، وحكم السلام على ما ذكرناه في التسليم في سائر الصلوات، هذا هو المذهب الصحيح المختار، ولنا فيه هنا خلاف ضعيف تركته لعدم الحاجة إليه في هذا الكتاب، ولو جاء مسبوقٌ فأدرك الإِمامَ في بعض الصلاة أحرمَ معه في الحال وقرأ الفاتحة ثم ما بعدها على ترتيب نفسه، ولا يُوافق الإِمام فيما يقرؤه، فإن كبَّرَ ثم كبَّرَ الإِمامُ التكبيرة الأخرى قبل أن يتمكن المأموم من الذكر سقطَ عنه كما تسقط القراءةُ عن المسبوق في سائر الصلوات وإذا سلَّمَ الإِمامُ وقد بقي على المسبوق في الجنازة بعضُ التكبيرات لزمه أن يأتي بها مع أذكارها على الترتيب، هذا هو المذهبُ الصحيح المشهور عندنا. ولنا قول ضعيف أنه يأتي بالتكبيرات الباقيات متواليات بغير ذكر اللّه، واللّه أعلم.
ـ بابُ ما يقولُه الماشي مع الجَنَازة
يُستحبّ له أن يكون مشتغلاً بذكر اللّه تعالى، والفكر فيما يلقاه الميت وما يكون مصيرُه وحاصلُ ما كان فيه، وأن هذا آخرُ الدنيا ومصيرُ أهلها؛ وليحذرْ كلَّ الحذر من الحديث بما لا فائدةَ فيه، فإن هذا وقتُ فِكر وذكر تقبحُ فيه الغفلةُ واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلامَ بما لا فائدة فيه منهيٌّ عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال.
واعلم أن الصوابَ المختارَ ما كان عليه السلفُ رضي اللّه عنهم السكوتُ (12) في حال السير مع الجنازة فلا يُرفع صوتٌ بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكنُ لخاطره وأجمعُ لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوبُ في هذا الحال، فهذا هو الحقّ، ولا تغترّنّ بكثرة من يُخالفه، فقد قال أبو عليّ الفُضيل بن عِياض رضي اللّه عنه ما معناه: الزمْ طرقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قلّةُ السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين.
وقد روينا في سنن البيهقي (13) ما يقتضي ما قلته. وأما ما يفعله الجهلةُ من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه وفسق من تمكّن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القرّاء، واللّه المستعان.
ـ بابُ ما يقولُه مَنْ مرَّتْ به جنازة أو رآها
يستحبّ أن يقول: سُبْحانَ الحَيِّ الَّذي لا يَمُوتُ. وقال القاضي الإمام أبو المحاسن الروياني من أصحابنا في كتابه "البحر": يُستحبّ أن يدعوَ ويقول: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَيّ الَّذي لا يَمُوتُ، فيستحبّ أن يدعوَ لها ويثني عليها بالخير إن كانت أهلاً للثناء، ولا يُجازف في ثنائه.
ـ بابُ ما يقولُه مَن يُدْخِلْ الميّتَ قبرَه
1/416 روينا في سنن أبي داود والترمذي والبيهقي وغيرها، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال:" بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلى سُنَّة رَسُولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم" (أبو داود (3213) ، والترمذي (1046) ، والبيهقي 4/55. وصححه ابن حبّان، والحاكم، ووافقه الذهبي.) قال الترمذي: حديث حسن. قال الشافعي والأصحاب رحمهم اللّه: يُستحبّ أن يدعو للميت مع هذا.
ومن حسن الدعاء ما نصّ عليه الشافعي رحمه اللّه في "مختصر المزني" قال: يقول الذين يدخلونه القبر (14) : اللَّهُمَّ أسْلَمَهُ إلَيْكَ الأشِحَّاءُ (15) مِنْ أهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَقَرابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ، وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيا وَالحَياةِ إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، إنْ عاقَبْتَهُ فَبِذَنْبٍ، وإنْ عَفَوتَ عَنْهُ فأنْتَ أهْلُ العَفْوِ، أنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلى رَحْمَتِكَ؛ اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَتَهُ، وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ منْ عَذَابِكَ، واكْفِهِ كل هَوْلٍ دُونَ الجَنَّةِ؛ اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الغابِرِينَ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ" .
ـ بابُ ما يقولُه بعدَ الدَّفْن
السنّة لمن كان على القبر أن يحثي في القبر ثلاث حثيات بيديه جميعاً من قِبل رأسه. قال جماعة من أصحابنا: يُستحبّ أن يقول في الحثية الأولى: {مِنْها خَلَقْناكُم} وفي الثانية: {وفِيها نُعِيدُكُمْ} وفي الثالثة: {وَمِنْها نُخرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى} [طه:56]. ويُستحبّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعة قدر ما يُنحر جزور ويُقسم لحمُها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأحوال الصالحين.
1/417 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عليّ رضي اللّه عنه قال: كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقعدَ وقعدنا حولَه ومعه مِخصَرَة، فنكسَ وجعلَ ينكتُ بمخصرته، ثم قال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، فقالوا: يا رسول اللّه! أفلا نتكلُ على كتابنا؟ فقال: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" وذكر تمام الحديث. (البخاري (1362) ، ومسلم (2647) ، وأبو داود (4694) ، والترمذي (2137) و (3341) . (16))
2/418 وروينا في صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه قال :إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنسَ بكم وأنظرَ ماذا أراجعُ به رسلَ ربي.
3/419 وروينا في سنن أبي داود والبيهقي، بإسناد حسن، عن عثمان رضي اللّه عنه قال: كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغَ من دفن الميت وقفَ عليه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فإنَّهُ الآنَ يُسْألُ" (أبو داود (3221) ، والبيهقي 4/56، وحسّنه الحافظ.) قال الشافعي والأصحاب: يُستحبّ أن يقرؤوا عنده شيئاً من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كلَّه كان حسناً.
4/420 وروينا في سنن البيهقي بإسناد حسن؛ أن ابن عمر استحبَّ أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها.( البيهقي 4/56 وقال الحافظ: هذا موقوف حسن.)
فصل: وأما تلقينُ الميّت بعد الدفن فقد قال جماعة كثيرون من أصحابنا باستحبابه، وممّن نصَّ على استحبابه: القاضي حسين في تعليقه، وصاحبه أبو سعد المتولي في كتابه "التتمة"، والشيخ الإِمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، والإِمام أبو القاسم الرافعي وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن الأصحاب. وأما لفظه فقال الشيخ نصر: إذا فرغ من دفنه يقف عند رأسه ويقول: يا فلان بن فلان! ذكر العهد الذي خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أن لا إِلهَ إِلاَّ اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث مَن في القبور، قل رضيت باللّه ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم نبيًّا وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إماماً، وبالمسلمين إخواناً، ربّي اللّه لا إِلهَ إِلا هو، وهو ربّ العرش العظيم، هذا لفظ الشيخ نصر المقدسي في كتابه "التهذيب"، ولفظ الباقين بنحوه، وفي لفظ بعضهم نقص عنه، ثم منهم مَن يقول: يا عبد اللّه ابن أمة اللّه! ومنهم مَن يقول: يا عبد اللّه ابن حوّاء، ومنهم من يقول: يا فلان ـ باسمه ـ ابن أمة اللّه، أو يا فلان ابن حوّاء، وكله بمعنى.
وسُئل الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه اللّه عن هذا التلقين فقال في فتاويه: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به، وذكره جماعة من أصحابنا الخراسانيين قال: وقد روينا فيه حديثاً من حديث أبي أمامة ليس بالقائم إسناده (17) ، ولكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام به قديماً. قال: وأما تلقين الطفل الرضيع فما له مُستند يُعتمد ولا نراه، واللّه أعلم. قلتُ: الصواب أنه لا يلقن الصغير مطلقاً، سواء كان رضيعاً أو أكبر منه ما لم يبلغ ويصير مكلفاً، واللّه أعلم.
بابُ وصيّةِ الميّتِ أنّ يُصلِّيَ عليه إنسانٌ بعينه، أو أن يُدفن على صفةٍ مخصوصةٍ وفي مَوْضعٍ مَخصوص، وكذلك الكفنُ وغيرُه من أمورِه التي تُفعل والتي لا تُفعل
1/421 روينا في صحيح البخاري، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي اللّه عنه: يعني وهو مريض، فقال: في كم كفّنتم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؟ فقلت: في ثلاثة أثواب، قال: في أيّ يوم تُوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه به رَدْع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيها. قلت: إن هذا خَلَق، قال: إن الحيّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوفّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفن قبل أن يُصبحَ. (البخاري (1387) والموطأ بلاغاً 1/224(18).)
قلت: قولها رَدْع، بفتح الراء وإسكان الدال وبالعين المهملات: وهو الأثر. وقوله للمهلة، روي بضم الميم وفتحها وكسرها ثلاث لغات والهاء ساكنة: وهو الصديد الذي يتحلّل من بدن الميت.
2/422 وروينا في صحيح البخاري؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لما جُرِحَ: إذا أنا قُبِضتُ فاحملوني، ثم سلِّم وقلْ يستأذنُ عمر، فإن أذنتْ لي ـ يعني عائشةَ ـ فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين. (البخاري (1392) (19))
3/423 ـ وروينا في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: قال سعد: الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبنَ نصباً كما صُنع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. (مسلم (966) (20))
4/424 وروينا في صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه؛ أنه قال وهو في سياقة الموت: إذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. (مسلم (121) (21).)
قلت: قوله شنوا، روي بالسين المهملة وبالمعجمة، ومعناه: صبّوه قليلاً قليلاً.
وروينا في هذا المعنى حديث حذيفة المتقدم في باب إعلام أصحاب الميت بموته، وغير ذلك من الأحاديث، وفيما ذكرناه كفاية وباللّه التوفيق.
قلت: وينبغي أن لا يقلد الميتُ ويتابع في كلّ ما وصَّى به، بل يُعرض ذلك على أهل العلم، فما أباحوه فعل ما لا فلا. وأنا أذكر من ذلك أمثلة، فإذا أوصى بأن يدفن في موضع من مقابر بلدته، وذلك الموضع معدن الأخيار فينبغي أن يُحافظ على وصيته، وإذا أوصى بأن يُصلِّي عليه أجنبي فهل يُقَدَّم في الصلاة على أقارب الميت؟ فيه خلاف للعلماء، والصحيح في مذهبنا أن القريب أولى، لكن إن كان الموصَى له ممّن يُنسب إلى الصلاح أو البراعة في العلم مع الصيانة والذكر الحسن، استحبّ للقريب الذي ليس هو في مثل حاله إيثاره رعاية لحقّ الميت، وإذا أوصى بأن يُدفن في تابوت لم تنفذ وصيته، إلا أن تكون الأرض رخوة، أو نديّة يحتاج فيها إليه، فتُنفذ وصيّته فيه ويكون من رأس المال؛ كالكفن. وإذا أوصى بأن يُنقل إلى بلد آخر لا تنفّذ وصيّته، فإن النقل حرامٌ على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرن وصرّح به المحققون، وقيل: مكروه.
قال الشافعي رحمه اللّه: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيُنقل إليها لبركتها. وإذا أوصى بأن يُدفَن تحته مِضربة أو مخدة تحتَ رأسه أو نحو ذلك لم تُنفذ وصيّته. وكذا إذا أوصى بأن يُكفَّن في حرير، فإن تكفينَ الرجال في الحرير حرام، وتكفينُ النساء فيه مكروه وليس بحرام، والخنثى في هذا كالرجل. ولو أوصى بأن يُكَفَّن فيما زاد على عدد الكفن المشروع أو في ثوب لا يَستر البدن لا تنفذ وصيّته. ولو أوصى بأن يُقرأ عند قبره أو يُتصدّق عنه وغير ذلك من أنواع القرب، نُفِّذَتْ إلا أن يقترن بها ما يمنع الشرع منها بسببه. ولو أوصى بأن تُؤَخَّرَ جنازته زائداً على المشروع لم تنفذ. ولو أوصى بأن يُبنى عليه في مقبرة مسبَّلة للمسلمين لم تنفّذ وصيته، بل ذلك حرام.
بابُ ما ينفعُ الميّتَ من قَوْل غيره
أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويَصلُهم (22) . واحتجّوا بقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الَّذين سَبَقُونا بالإِيمَانِ}[الحشر:10] وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها، وفي الأحاديث المشهورة كقوله صلى اللّه عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ" (مسلم (974) ) وكقوله صلى اللّه عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنَا" (أبو داود (3201) ) وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يَصل. وذهب أحمدُ بن حنبل وجماعةٌ من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يَصل، والاختيار أن يقولَ القارئُ بعد فراغه: "اللهمّ أوصلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان، واللّه أعلم. ويُستحبّ الثناء على الميت وذكر محاسنه.
1/425ـ وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "وَجَبَتْ" ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا ، فقال: "وَجَبَتْ" فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما وجبت؟ قال: "هَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرَاً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّه في الأرْضِ". (البخاري (1367) ، ومسلم (949) ، والترمذي (1058) ، والنسائي 4/49ـ50.)
2/426 وروينا في صحيح البخاري، عن أبي الأسود قال:قدمتُ المدينةَ فجلستُ إلى عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه، فمرّتْ بهم جنازة، فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بأخرى فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بالثالثة فأُثني على صاحبها شرٌّ فقالَ عمرُ: وجبتْ؛ قال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال: قلتُ كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم:"أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ" فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وَثَلاَثَةٌ" فقلنا: واثنان، قال: "وَاثْنانِ"، ثم لم نسأله عن الواحد. (البخاري (1368) ، والترمذي (1059) ، والنسائي 4/51.) والأحاديث بنحو ما ذكرنا كثيرة، واللّه أعلم.
بابُ النّهي عن سبِّ الأمْوَات
1/427 روينا في صحيح البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ فإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا". (البخاري (1393) ، وأبو داود (4899) ، والنسائي 4/52ـ63. (23))
2/428 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، بإسناد ضعيف ضعَّفه الترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "اذْكُرُوا مَحاسنَ مَوْتاكُمْ، وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهمْ". (أبوداود (4900) ، والترمذي (1019) (24))
قلت: قال العلماء: يَحرم سبُّ الميت المسلم الذي ليس معلناً بفسقه. وأما الكافرُ والمُعلِنُ بفسقه من المسلمين ففيه خلاف للسلف وجاءت فيه نصوص متقابلة، وحاصلُه أنه ثبت في النهي عن سبّ الأموات ما ذكرناه في هذا الباب.
وجاء في الترخيص في سبّ الأشرار أشياء كثيرة، منها ما قصَّه اللَّهُ علينا في كتابه العزيز وأمرنا بتلاوته وإشاعة قراءته؛ ومنها أحاديثُ كثيرة في الصحيح، كالحديث الذي ذكر فيه صلى اللّه عليه وسلم عمروَ بن لحيّ، وقصة أبي رِغال (25) ، والذي كان يسرقُ الحاجَّ بمحجنه (26) ، وقصة ابن جُدْعان (27) وغيرهم، ومنها الحديث الصحيح الذي قدّمناه لما مرّت جنازة فأثنوا عليها شرّاً فلم ينكر عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بل قال: "وجبتْ".
واختلف العلماءُ في الجمع بين هذه النصوص على أقوال أصحُّها وأظهرُها أن أمواتَ الكفار يجوز ذكر مساويهم. وأما أمواتُ المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما، فيجوز ذكرُهم بذلك إذا كان فيه مصلحة لحاجة إليه للتحذير من حالهم، والتنفير من قبول ما قالوه والاقتداء بهم فيما فعلوه، وإن لم تكن حاجة لم يجزْ؛ وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ هذه النصوص، وقد أجمعَ العلماءُ على جرح المجروح من الرواة، واللّه أعلم.
بابُ ما يقولُه زائرُ القبور
1/429 روينا في صحيح مسلم، عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلّمَا كان ليلتُها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرجُ من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَأتاكُمْ ما تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلُونَ، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحقُونَ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ". (مسلم (974) ، والنسائي 4/93، وفي "اليوم والليلة" (1092) (28))
2/430 وروينا في صحيح مسلم، عن عائشة أيضاً أنها قالت: كيف أقولُ يا رسولَ اللّه؟! ـ تعني في زيارة القبور ـ قال: "قُولي: السَّلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنَ المُؤْمنينَ وَالمُسْلمينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَمِنَّا وَالمُسْتأخِرِين، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّه بِكُمْ لاحِقُونَ". (مسلم (974) (103) (29))
3/431 ورَوينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي هُريرة رضيَ اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السَّلامُ عَلَيكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ". (أبو داود (3237) ، والنسائي 4/91، وابن ماجه (4306) (30))
4/432 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقبور أهل المدينة، فأقبلَ عليهم بوجهه فقال: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أهْلَ القُبُورِ! يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أنْتُمْ سَلَفُنا وَنَحْنُ بالأثَرِ" ( الترمذي (1053) ، وإسناده حسن.) قال الترمذي: حديث حسن.
5/433 وروينا في صحيح مسلم، عن بريدة رضي اللّه عنه قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الدّيارِ مِنَ المؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ، أسألُ اللَّهُ لَنَا ولَكُمُ العافيَةَ". ورويناه في كتاب النسائي وابن ماجه هكذا، وزاد بعد قوله: للاحقون: "أنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ". (مسلم (975) ، والنسائي 4/94، وابن ماجه (1547) ، وهو عند النسائي في "اليوم والليلة" (1091)(31).)
6/434 وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي اللّه عنها؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أتى البقيعَ فقال:"السَّلامُ عَلَيْكُمْ دار قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أنْتُمْ لَنا فَرَطٌ، وإنَّا بِكُمْ لاحِقُونَ؛ اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُمْ وَلا تُضِلَّنا بَعْدَهُمْ". (ابن السني (596) (32))
ويُستحب للزائر الإِكثار من قراءة القرآن والذكر، والدعاء لأهل تلك المقبرة وسائر الموتى والمسلمين أجمعين. ويُستحبّ الإِكثار من الزيارة، وأن يكثرَ الوقوفَ عند قبور أهل الخير والفضل.
بابُ نهي الزائر مَنْ رآه يبكي جزعاً عند قبر، وأمرِه إِيَّاه بالصبرِ ونهيِهِ أيضاً عن غير ذلك مما نهى الشرعُ عنه
1/435 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال: مرّ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقي اللَّهَ وَاصْبِرِي". (البخاري (1283) ، ومسلم (926). )
2/436 وروينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، بإسناد حسن، عن بشير بن معبد ـ المعروف بابن الخصاصية ـ رضي اللّه عنه قال: بينما أنا أُماشي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم نظر فإذا رجل يمشي بين القبور عليه نعلان، فقال: "يا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ ألْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ" وذكر تمام الحديث. (أبو داود (3230) ، والنسائي 4/296، وابن ماجه (1568) . (33)
قلت: السِّبتية: النعل الذي لا شعر عليها، وهي بكسر السين المهملة وإسكان الباء الموحدة. وقد أجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودلائله في الكتاب والسنّة مشهورة، واللّه أعلم.
بابُ البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم وإظهار الافتقار إلى اللّه تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك
1/437 روينا في صحيح البخاري، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه ـ يعني لما وصلوا الحِجْرَ ديارَ ثمود ـ: "لا تَدْخُلُوا على هَؤُلاءِ المُعَذَّبينَ إِلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا باكينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لا يُصيبُكُم ما أصَابَهُمْ".(البخاري (433) ، وهو في صحيح مسلم أيضاً (2980)
اقرأ بعده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق