الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

كتاب حفظ اللّسان بابُ حفظ اللسان تحريم الغِيبَةِ والنَّمِيمَة و بيانِ مُهِمَّاتٍ تتعلّقُ بحدِّ الغِيبَة و بَيانِ ما يَدْفَعُ به الغيبةَ عن نفسِه و بَيانِ ما يُبَاحُ مِن الغِيبَة وأمرِ منْ سَمعَ غيبةَ شيخِهِ أو صاحبهِ أو غيرِهما والغِيْبَةِ بالقَلْبِ وكَفَّارةِ الغيْبةِ والتَّوْبَةِ منها و بابٌ في النميمة والنهي عن نَقْلِ الحَديثِ إلى وُلاةِ الأُمور إذا لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ لخوفِ مَفْسدةٍ ونحوِهَا و النَّهي عن الطعن في الأَنْسَابِ الثَّابتةِ في ظاهِر الشَّرْعِ

 كتاب حفظ اللّسان
 بابُ حفظ اللسان
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏18‏]‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ رَبَّكَ لَبالمِرْصَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏14‏]‏‏.‏ وقد ذكرت ما يَسَّرَهُ اللّه سبحانه وتعالى من الأذكار المستحبة ونحوها فيما سبقَ، وأردتُ أن أضمَّ إليها ما يُكره أو يَحرم من الألفاظ ليكونَ الكتابُ جامعاً لأحكام الألفاظ، ومُبيِّناً أقسامَها، فأذكرُ من ذلك مقاصدَ يحتاج إلى معرفتها كلُّ متدين، وأكثرُ ما أذكره معروف، فلهذا أترك الأدلة في أكثره، وباللّه التوفيق‏.‏
 فصل‏:‏ اعلم أنه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسنّة الإِمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلُها شيء‏.‏
1/874 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ‏"‏‏.‏ (1)‏ قلت‏:‏ فهذا الحديث المتفق على صحته نصّ صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شكّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم‏.‏ وقد قال الإِمام الشافعي رحمه اللّه‏:‏ إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر‏.‏
2/875 وروينا في صحيحيهماعن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قلتُ يا رسولُ اللّه، أيُّ المسلمين أفضلُ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِهِ‏"‏‏.‏‏.‏ ‏(2)
3/876 وروينا في صحيح البخاري، عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه،عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ يَضْمَنْ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ وَما بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ‏"‏‏.‏(3)
4/877 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة،أنه سمع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إِنَّ العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيها يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَد مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ‏"‏ وفي رواية البخاري‏:‏ ‏"‏أبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ‏"‏ من غير ذكر المغرب، ومعنى يتبين‏:‏ يتفكر في أنها خير أم لا‏.‏ (4)
5/878 وروينا في صحيح البخاري، عن أبي هريرة،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعالى ما يُلْقِي لَهَا بالاً يَرْفَعُ اللَّهُ تَعالى بها دَرَجاتٍ، وَإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخْطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقِي لَها بالاً يَهْوِي بِها في جَهَنَّمَ‏"‏ قلت‏:‏ كذا في أصول البخاري ‏"‏يَرْفَعُ اللَّهُ بِها دَرَجاتٍ‏"‏ وهو صحيح‏:‏ أي درجاته، أو يكون تقديره‏:‏ يرفعه، ويُلقي بالقاف‏.‏ (5)
6/879 وروينا في موطأ الإِمام مالك وكتابي الترمذي وابن ماجه، عن بلال بن الحارث المزني رضي اللّه عنه؛أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعالى ما كَانَ يَظُن أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى ما كانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ ‏(6)
7/880 وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه،عن سفيان بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ حدّثني بأمر أعتصم به، قال‏:‏ ‏"‏قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ ما أخوف ما يخاف عليّ‏؟‏ فأخذ بلسان نفسه ثم قال‏:‏ ‏"‏هَذَا‏"‏‏.‏
قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ ‏(7)
8/881 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي‏"‏‏.‏‏(8)
9/882 وروينا فيه، عن أبي هريرة قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ وَقاهُ اللّه تَعالى شَرَّ ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَشَرَّ ما بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (9)
10/883 وروينا فيه، عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال‏:‏قلتُ يا رسولَ اللّه، ما النجاة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ على خَطِيئَتِكَ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (10)
11/884 وروينا فيه، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَم فإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ‏:‏ اتقِ اللَّهَ فِينا فإنما نَحْنُ مِنْكَ، فإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وَإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا‏"‏‏.‏‏(11)
12/885 وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه، عن أُمِّ حبيبة رضي اللّه عنها،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ، إِلاَّ أمْراً بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، أوْ ذِكْراً للّه تَعالى‏"‏‏.‏‏(12)
13/886 وروينا في كتاب الترمذي، عن معاذ رضي اللّه عنه قال‏:‏قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويُباعدني من النار، قال‏:‏ لَقَدْ سألْتَ عَنْ عَظِيمٍ وإنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ‏:‏ تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتِي الزَّكاةَ، وَتَصًومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثم قال‏:‏ ألا أدُلُّكَ على أبْوَابِ الخَيْرِ‏؟‏ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَةَ كما يُطْفىءُ المَاءُ النارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تلا ‏{‏تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجعِ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ألا أُخْبِرُكَ برأسِ الأمْرِ وَعمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنامِهِ‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه‏!‏ قال‏:‏ رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ، ثم قال‏:‏ ألا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذلكَ كُلِّهُ‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه‏!‏ فأخذ بلسانه ثم قال‏:‏ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ فقال‏:‏ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ‏؟‏‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ قلت‏:‏ الذِّروة بكسر الذال المعجمة وضمّها‏:‏ وهي أعلاه‏.‏ (13)
14/887 وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ‏"‏ حديث حسن‏.‏ ‏(14)
15/888 وروينا في كتاب الترمذي، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ صَمَتَ نَجا‏"‏ (15)‏إسناده ضعيف، وإنما ذكرته لأُبيِّنه لكونه مشهوراً، والأحاديث الصحيحة بنحو ما ذكرته كثيرة، وفيما أشرت به كفاية لمن وفّق، وسيأتي إن شاء اللّه في باب الغيبة جُمَل من ذلك، وباللّه التوفيق
وأما الآثار عن السلف وغيرهم في هذا الباب فكثيرة، ولا حاجة إليها مع ما سبق، لكن ننبّه على عيونٍ (16) منها‏:‏
بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ كم وجدت في ابن آدم من العيوب‏؟‏ فقال‏:‏ هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال‏:‏ ما هي‏؟‏ قال‏:‏ حفظ اللسان‏.‏
وروينا عن أبي عليّ الفُضَيْل بن عياض رضي اللّه عنه قال‏:‏ مَنْ عَدّ كلامَه من عمله قلّ كلامُه فيما لا يعنيه‏.‏
وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه اللّه لصاحبه الرَّبِيع‏:‏ يا ربيعُ‏!‏ لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها‏.‏
وروينا عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ ما من شيء أحقُّ بالسجن من اللسان‏.‏ وقال غيرُه‏:‏ مَثَلُ اللسان مَثَلُ السَّبُع إن لم تُوثقه عَدَا عليك‏.‏
وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القُشيري رحمه اللّه في رسالته المشهورة قال‏:‏ الصمتُ سلامةٌ وهو الأصل، والسكوتُ في وقته صفةُ الرجال؛ كما أن النطق في موضعه أشرفُ الخصال، قال‏:‏ سمعت أبا عليّ الدقاق رضي اللّه عنه يقول‏:‏ مَنْ سكتَ عن الحقّ فهو شيطانٌ أخرس‏.‏ قال‏:‏ فأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوتَ فلِمَا علموا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظّ النفس وإظهار صفاتِ المدح، والميل إلى أن يتميزَ بين أشكاله بحسن النطق وغير هذا من الآفات، وذلك نعتُ أرباب الرياضة، وهو أحدُ أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق، ومما أنشدوه في هذا الباب‏:‏
احفظْ لسانَك أيُّها الإِنسانُ * لا يلدغنَّك إنه ثُعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه * قد كانَ هابَ لقاءَه الشجعانُ
(17)
وقال الرِّيَاشِيُّ رحمه اللّه‏:‏
لعمرُك إنَّ في ذنبي لَشُغْلاً * لِنَفْسِي عن ذنوب بني أُمَيَّه
على ربِّي حِسَابُهمُ إليه * تَنَاهَى عِلمُ ذلكَ لا إِليَّهْ
وليسَ بضائري ما قَدْ أتوْهُ * إذا ما اللَّه أصلحَ ما لديَّهْ
 بابُ تحريم الغِيبَةِ والنَّمِيمَة
اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشاراً في الناس، حتى ما يسلمُ منهما إلا القليل من الناس، فلعموم الحاجة إلى التحذير منهما بدأتُ بهما‏.‏
فأما الغيبة‏:‏ فهي ذكرُك الإِنسانَ بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه، أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه، أو ماله أو ولده أو والده، أو زوجه أو خادمه أو مملوكه، أو عمامته أو ثوبه، أو مشيته وحركته وبشاشته، وخلاعته وعبوسه وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك‏.‏ أما البدن فكقولك‏:‏ أعمى أعرج أعمش أقرع، قصير طويل أسود أصفر‏.‏ وأما الدِّيْنُ فكقولك‏:‏ فاسق سارق خائن، ظالم متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارّاً بوالده، لا يضعُ الزكاة مواضعَها، لا يجتنبُ الغيبة‏.‏ وأما الدنيا‏:‏ فقليلُ الأدب، يتهاونُ بالناس، لا يرى لأحد عليه حقاً، كثيرُ الكلام، كثيرُ الأكل أو النوم، ينامُ في غير وقته، يجلسُ في غير موضعه، وأما المتعلِّق بوالده فكقوله‏:‏ أبوه فاسق، أو هندي أو نبطي أو زنجي، إسكاف بزاز نخاس نجار حداد حائك‏.‏ وأما الخُلُق فكقوله‏:‏ سيء الخلق، متكبّر مُرَاء، عجول جبَّار، عاجز ضعيفُ القلب، مُتهوِّر عبوس، خليع، ونحوه‏.‏ وأما الثوب‏:‏ فواسع الكمّ، طويل الذيل، وَسِخُ الثوب ونحو ذلك، ويُقاس الباقي بما ذكرناه‏.‏ وضابطُه‏:‏ ذكرُه بما يكره‏.‏
وقد نقل الإِمام أبو حامد الغزالي إجماع المسلمين على أن الغيبة‏:‏ ذكرُك غيرَك بما يكرَهُ، وسيأتي الحديث الصحيح المصرِّح بذلك‏.‏
وأما النميمة‏:‏ فهي نقلُ كلام الناس بعضِهم إلى بعضٍ على جهةِ الإِفساد‏.‏ هذا بيانهما‏.‏
وأما حكمهما، فهما محرَّمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرَ على تحريمهما الدلائلُ الصريحةُ من الكتاب والسنّة وإجماع الأمة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏12‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏1‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏11‏]‏ (18)‏
1/889 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن حذيفة رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ‏"‏‏.‏(19)
2/890 وروينا في صحيحيهما، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما؛أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ بقبرين فقال‏:‏ ‏"‏إنَّهُما يُعَذَّبانِ ومَا يُعَذَّبانِ في كَبير‏"‏ قال‏:‏ وفي رواية البخاري‏:‏ ‏"‏بلى إنَّه كَبيرٌ، أمَّا أحَدُهُما فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، وأما الآخَرُ فَكانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ‏"‏‏.‏(20)
قلتُ‏:‏ قال العلماء‏:‏ معنى وما يُعذّبان في كبير‏:‏ أي في كبير في زعمهما أو كبير تركه عليهما‏.‏
3/891 وروينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه؛أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتَدْرُونَ ما الغِيْبَةُ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال‏:‏ ‏"‏ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ‏"‏ قيل‏:‏ أفرأيتَ إنْ كانَ في أخي ما أقولُ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (21)
4/892 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي بكرة رضي اللّه عنه؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بِمنىً في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏إنَّ دِماءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا، ألا هَلْ بَلَّغْتُ‏؟‏‏"‏‏.‏(22)
5/893 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، عن عائشة رضي اللّه عنها قالتْ‏:‏قلتُ للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ حسبُك من صفيّة كذا وكذا ـ قال بعضُ الرواة‏:‏ تعني قصيرة ـ فقال‏:‏ ‏"‏لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ‏"‏ قالت‏:‏ وحكيتُ له إنساناً فقال‏:‏ ‏"‏ما أُحِبُّ أني حَكَيْتُ إنساناً وأنَّ لي كَذَا وكَذَا‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (23)
قلتُ‏:‏ مزجته‏:‏ أي خالطته مخالطة يتغيرُ بها طعمُه أو ريحُه لشدّة نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ ‏{‏وَمَا يَنْطقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏3‏]‏ نسألُ اللَّه الكريم لطفه والعافية من كل مكروه‏.‏
6/894 وروينا في سنن أبي داود، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أظْفارٌ مِنْ نُحاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ هؤُلاءِ يا جِبْرِيلُ‏؟‏ قال‏:‏ هَؤُلاءِ الَّذينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ‏"‏‏.‏(24)
7/895 وروينا فيه، عن سعيد بن زيد رضي اللّه عنه،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ مِن أرْبَى الرّبا الاسْتِطالَةَ في عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقّ‏"‏‏.‏(25)
8/896 وروينا في كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَخونُهُ وَلا يَكْذِبُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى ها هنا، بِحسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلمَ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(26)
قلتُ‏:‏ ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده، وباللّه التوفيق‏.‏
 بابُ بيانِ مُهِمَّاتٍ تتعلّقُ بحدِّ الغِيبَة
قد ذكرنا في الباب السابق أن الغيبة‏:‏ ذكرك الإنِسان بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك‏.‏ وضابطُه‏:‏ كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرّمة، ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجاً أو مُطَأْطِئاً أو على غير ذلك من الهيئات، مريداً حكاية هيئة من يَتَنَقَّصُهُ بذلك، فكلُّ ذلك حرام بلا خلاف، ومن ذلك إذا ذَكرَ مُصنفُ كتاب شخصاً بعينه في كتابه قائلاً‏:‏ قال فلان كذا مريداً تنقيصه (27)‏ والشناعةَ عليه، فهو حرام، فإن أرادَ بيانَ غلطه لئلا يُقلَّدَ أو بيانَ ضعفه في العلم لئلا يُغترّ به ويُقبل قوله، فهذا ليس غيبة، بل نصيحة واجبة يُثاب عليها إذا أراد ذلك، وكذا إذا قال المصنف أو غيره‏:‏ قال قوم أو جماعة كذا، وهذا غلط أو خطأ أو جَهالة وغفلة، ونحو ذلك فليس غيبة، إنما الغيبة ذكر الإِنسان بعينه أو جماعة معينين‏.‏
ومن الغيبة المحرّمة قولك‏:‏ فعل كذا بعضُ الناس أو بعض الفقهاء، أو بعضُ من يَدّعي العلم، أو بعضُ المفتين، أو بعض مَن يُنسب إلى الصلاح أو يَدّعي الزهدَ، أو بعض مَن مرّ بنا اليوم، أو بعضَ مَن رأيناه، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم‏.‏
ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فيُقال لأحدهم‏:‏ كيف حال فلان‏؟‏ فيقول‏:‏ اللّه يُصلحنا، اللّه يغفر لنا، اللّه يُصلحه، نسأل اللّه العافية، نحمدُ اللّه الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ باللّه من الشرّ، اللّه يُعافينا من قلّة الحياء، اللّه يتوبُ علينا وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال‏:‏ فلان يُبتلى بما ابتلينا به كلُّنا، أو ماله حيلة في هذا، كلُّنا نفعلُه، وهذه أمثلة وإلا فضابط الغيبة‏:‏ تفهيمك المخاطب نقص إنسان كما سبق، وكلُّ هذا معلوم من مقتضى الحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن صحيح مسلم وغيره في حدّ الغيبة، واللّه أعلم‏.‏
 فصل‏:‏ اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها فيجب على من سمع إنساناً يبتدىء بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإِنكارُ بقلبه ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإِنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه أسكتْ وهو يشتهي بقلبه استمرارُه، فقال أبو حامد الغزالي‏:‏ ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإِثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإِنكار أو أنكر فلم يُقبل منه ولم يُمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإِصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكرَ اللّه تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها وجب عليه المفارقة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رأيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يخوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏68‏]‏‏.‏
وروينا عن إبراهيم بن أدهم رضي اللّه عنه؛ أنه دُعي إلى وليمة، فحضرَ، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا‏:‏ إنه ثقيل، فقال إبراهيم‏:‏ أنا فعلتُ هذا بنفسي حيثُ حضرتُ موضعاً يُغتاب فيه الناس، فخرج ولم يأكلْ ثلاثة أيام‏.‏ ومما أنشدوه في هذا‏:‏
وَسَمْعَكَ صُنْ عن سماعِ القبيحِ * كصَوْنِ اللسانِ عن النُّطْقِ بِهْ
فإنَّكَ عندَ سماعِ القبيحِ * شريكٌ لقائِلِه فانتبِهْ
 بابُ بَيانِ ما يَدْفَعُ به الغيبةَ عن نفسِه
اعلم أن هذا الباب له أدلةٌ كثيرةٌ في الكتاب والسنّة، ولكني أقتصرُ منه على الإِشارة إلى أحرف، فمن كان موفَّقاً انزجرَ بها، ومن لم يكن كذلك فلا ينزجر بمجلدات‏.‏
وعمدة الباب أن يعرضَ على نفسه ما ذكرناه من النصوص في تحريم الغيبة، ثم يفكر في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏18‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏15‏]‏ وما ذكرناه من الحديث الصحيح ‏"‏إنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه تعالى ما يُلْقِي لَها بالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ‏"‏ ‏(28)‏ وغير ذلك مما قدّمناه في باب حفظ اللسان وباب الغيبة، ويضمّ إلى ذلك قولهم‏:‏ اللّه معي، اللّه شاهدي، اللّه ناظر إليّ‏.‏
وعن الحسن البصري رحمه اللّه أن رجلاً قال له‏:‏ إنك تغتابني، فقال‏:‏ ما بلغَ قدرُك عندي أن أحكِّمَكَ في حسناتي‏.‏
وروينا عن ابن المبارك رحمه اللّه قال‏:‏ لو كنتُ مُغتاباً أحداً لاغتبتُ والديّ لأنهما أحقُّ بحسناتي‏.‏
 بابُ بَيانِ ما يُبَاحُ مِن الغِيبَة
اعلم أنَّ الغيبةَ وإن كانت محرّمة فإنها تُباح في أحوال للمصلحة، والمُجوِّزُ لهَا غرض صحيح شرعي لا يمكن الوصولُ إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب‏:‏
 الأوّل‏:‏ التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممّن له ولاية أو له قدرة على إنصافه من ظالمه فيذكرُ أن فلاناً ظلمني وفعل بي كذا وأخذ لي كذا، ونحو ذلك‏.‏
 الثاني‏:‏ الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر‏:‏ فلان يعملُ كذا فازجرْه عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوسل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً‏.‏
 الثالث‏:‏ الاستفتاء، بأن يقولَ للمفتي‏:‏ ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا، فهل له ذلك أم لا‏؟‏ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقّي ودفع الظلم عني‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ زوجتي تفعلُ معي كذا، أو زوجي يفعلُ كذا ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط أن يقول‏:‏ ما تقولُ في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج أو زوجة تفعلُ كذا، ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز لحديث هند الذي سنذكره إن شاء اللّه تعالى وقولُها‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إن أبا سفيانَ رجلٌ شحيح‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ ولم ينهها رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏
 الرابع‏:‏ تحذير المسلمين من الشرّ ونصيحتهم، وذلك من وجوه‏:‏
منها جرح المجروحين من الرواة للحديث والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة‏.‏
ومنها ما استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه أو الإِيداع عنده أو معاملته بغير ذلك وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة، فإن حصل الغرض بمجرّد قولك لا تصلحُ لك معاملتُه أو مصاهرُته أو لا تفعلْ هذا أو نحو ذلك لم تجز الزيادةُ بذكر المساوىء، وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعينه فاذكره بصريحه‏.‏ ومنها إذا رأيتَ مَن يشتري عبداً معروفاً بالسرقة أو الزنا أو الشرب أو غيرها، فعليك أن تبيّن ذلك للمشتري إن لم يكن عالماً به، ولا يختصّ بذلك، بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيباً وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه‏.‏
ومنها إذا رأيت متفقهاً يتردَّدُ إلى مبتدعٍ أو فاسقٍ يأخذ عنه العلم خِفْتَ أن يتضرَّرَ المتفقّه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، ويُشترط أن يقصدَ النصيحةَ، وهذا مما يُغلَطُ فيه، وقد يَحملُ المُتكلمَ بذلك الحسدُ، أو يُلَبِّسُ الشيطانُ عليه ذلك، ويُخيَّلُ إليه أنه نصيحةٌ وشفقةٌ، فليتفطَّنْ لذلك‏.‏
ومنها أن لا يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيلَه ويُولِّي من يَصلحُ، أو يعلم ذلك منه لتعامله بمقتضة حاله ولا يغترّ به، وأن يسعى في أن يحثَّه على الاستقامة أو يستبدل به‏.‏
 الخامس‏:‏ أن يكون مُجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، أو مصادرة الناس وأخذ المُكس، وجباية الأموال ظلماً، وتولّي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه‏.‏
 السادس‏:‏ التعريف، فإذا كان الإِنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصمّ والأعمى والأحول والأفطس وغيرهم، جاز تعريفه بذلك بنيّة التعريف، ويحرمُ إطلاقُه على جهة النقص، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى‏.‏ فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء مما تُباح بها الغيبة على ما ذكرناه‏.‏
وممّن نصّ عليها هكذا الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء وآخرون من العلماء، ودلائلُها ظاهرة من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وأكثرُ هذه الأسباب مجمع على جواز الغيبة بها‏.‏
1/897 روينا في صحيحي البخاري ومسلم،عن عائشة رضي اللّه عنها؛ أن رجلاً استأذنَ على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أخُو العَشيرَةِ‏"‏ احتجّ به البخاري على جواز غيبة أهل الفساد وأهل الرِّيَبِ‏.‏ (29)
2/898 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏قسمَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قسمةً، فقال رجلٌ من الأنصار‏:‏ واللّه ما أرادَ محمدٌ بهذا وجهَ اللّه تعالى، فأتيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرتُه، فتغيَّرَ وجهُه وقال‏:‏ ‏"‏رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ‏"‏ وفي بعض رواياته‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ فقلتُ لا أرفعُ إليه بعد هذا حديثاً‏.‏ (30)
قلتُ‏:‏ احتجّ به البخاري في إخبار الرجل أخاه بما يُقال فيه‏.‏
3/899 وروينا في صحيح البخاري، عن عائشةَ رضي اللّه عنها قالت‏:‏قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا أظُنُّ فُلاناً وَفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنا شَيْئاً‏"‏‏.‏(31)
قال الليث بن سعد ـ أحد الرواة ـ‏:‏ كانا رجلين من المنافقين‏.‏
4/900 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن زيد بن أرقمَ رضي اللّه عنه قال‏:‏خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فأصابَ الناسَ فيه شدةٌ، فقال عبدُ اللّه بن أُبيّ‏:‏ لا تُنفقوا على مَن عند رسول اللّه حتى يَنْفَضُّوا من حوله، وقال‏:‏ لئن رجعنَا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فأتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبرتُه بذلك، فأرسلَ إلى عبد اللّه بن أُبيّ‏.‏ وذكر الحديث، وأنزل اللّه تعالى تصديقه‏:‏ ‏{‏إذَا جَاءَكَ المُنافِقونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏1‏]‏‏.‏ ‏(32)
وفي الصحيح حديث هند ‏(33) امرأة أبي سفيان وقولها للنبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أبا سفيان رجل شحيح‏"‏ إلى آخره‏.‏
وحديث فاطمة بنت قيس (34) وقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لها‏:‏ ‏"‏أما معاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ، وأمَّا أبُو جَهْمٍ فَلا يَضَع العَصَا عَنْ عاتِقِهِ‏"‏‏.‏
 بابُ أمرِ منْ سَمعَ غيبةَ شيخِهِ أو صاحبهِ أو غيرِهما
اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان، فارقَ ذلكَ المجلس، فإن سمعَ غِيبَةَ شيخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كانَ من أهل الفضل والصَّلاح، كان الاعتناءُ بما ذكرناه أكثر‏.‏
1/901 روينا في كتاب الترمذي، عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيامَةِ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(35)
2/902 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، في حديث عِتبان بكسر العين على المشهور، وحُكِي بضمِّها رضي اللّه عنه في حديثه الطويل المشهور قال‏:‏قام النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يُصلِّي، فقالوا‏:‏ أين مالك بن الدُّخْشُم‏؟‏ فقال رجل‏:‏ ذلك منافق لا يُحِبّ اللَّهَ ورسولَه، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَقُلْ ذلكَ، ألا تَرَاهُ قَدْ قالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذلكَ وَجْهَ اللَّهِ‏؟‏‏"‏‏.‏‏(36)
3/903 وروينا في صحيح مسلم، عن الحسن البصري رحمه اللّه‏:‏أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخلَ على عُبيد اللّه بن زياد فقال‏:‏‏"‏ أي بنيّ إني سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنَّ شَرَّ الرِّعَاء الحُطَمَةُ، فإيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمُ، فقال له‏:‏ اجلسْ، فإنما أنتَ من نُخالة أصحابِ محمَّدٍ صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ وهل كانتْ لهم نخالةٌ‏؟‏‏!‏ إنما كانت النُّخَالةُ بعدَهم وفي غيرِهم‏"‏‏.‏‏(37)
4/904 وروينا في صحيحيهما، عن كعب بن مالك رضي اللّه عنه في حديثه الطويل في قصة توبته قال‏:‏قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو جالسٌ في القوم بتبوك ‏"‏ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ‏؟‏‏"‏ فقال رجلٌ من بني سَلِمة‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ حبسَه بُرداهُ والنظرُ في عِطْفَيْه، فقال له مُعاذُ بن جبل رضي اللّه عنه‏:‏ بئسَ ما قلتَ، واللّه يا رسولَ اللّه‏!‏ ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكتَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ (38)
قلت‏:‏ سَلِمة بكسر اللام؛ وعِطْفاه‏:‏ جانباه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه‏.‏
5/905 ورويناه في سنن أبي داود، عن جابر بن عبد اللّه وأبي طلحة رضي اللّه عنهم قالا‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما مِن امْرىءٍ يَخْذُلُ امْرَأَ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضَهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، ومَا مِنْ امْرىِءٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلا نَصَرَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِب نُصْرَتَهُ‏"‏‏.‏(39)
6/906 وروينا فيه، عن معاذ بن أنس،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنافِقٍ ـ أُراه قال ـ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ نارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِماً بِشَيْءٍ يُريدُ شَيْنَهُ حَبَسَهُ اللَّهُ على جِسْرِ جَهَنَّمَ حتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ‏"‏‏.‏‏(40)
 بابُ الغِيْبَةِ بالقَلْبِ
اعلم أن سوء الظنّ حرام مثل القول‏:‏ فكما يحرم أن تحدّث غيرك بمساوىء إنسان، يحرم أن تحدّث نفسك بذلك وتسيء الظنّ به، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏12‏]‏‏.‏
1/907 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذِبُ الحَدِيثِ‏"‏‏.‏(41)
والأحاديثُ بمعنى ما ذكرته كثيرة، والمراد بذلك عقدُ القلب (42)‏ وحكمُهُ على غيرك بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقرَّ ويستمرّ عليه صاحبُه فمعفوٌ عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبتَ في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ تَتَكَلَّم بِهِ أوْ تَعْمَلْ‏"‏ (43) قال العلماء‏:‏ المراد به الخواطر التي لا تستقرّ‏.‏ قالوا‏:‏ وسواءٌ كان ذلك الخاطِرُ غِيبة أو كفراً أو غيرَه؛ فمن خطرَ له الكفرُ مجرّد خَطَرٍ من غير تعمّدٍ لتحصيله، ثم صَرفه في الحال فليس بكافر ولا شيء عليه‏.‏
وقد قدّمنا في باب الوسوسة في الحديث الصحيح أنهم قالوا‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال‏:‏ ‏"‏ذلكََ صَرِيحُ الإِيمَانِ‏"‏ (44)‏ ‏"‏ وغير ذلك مما ذكرناه هناك وما هو في معناه‏.‏
وسببُ العفو ما ذكرناه من تعذّرٍ اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراماً‏.‏ ومهما عرضَ لك هذا الخاطرُ بالغيبة وغيرها من المعاصي وجبَ عليك دفعُه بالإِعراض عنه وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره‏.‏
قال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء ‏(45) ‏:‏ إذا وقع في قلبك ظنّ السوء فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تُكذِّبه فإنه أفسقُ الفسّاق، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏6‏]‏ فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمل خلافه، لم تجز إساءة الظنّ؛ ومن علامة إساءة الظنّ أن يتغيَّر قلبُك معه عمّا كان عليه، فتنفرُ منه وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيّئته، فإنَّ الشيطانَ قد يقرِّبُ إلى القلب بأدنى خيالٍ مساوىءَ الناس، ويُلقي إليه أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبّهك، وإن المؤمن ينظر بنور اللّه تعالى، وإنما هو على التحقيق ناطقٌ بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرَكَ عدلٌ بذلك فلا تُصدِّقه ولا تُكذِّبه لئلا تُسيءَ الظنّ بأحدهما؛ ومهما خطرَ لك سوءٌ في مسلمٍ فزِدْ في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يُغيظُ الشيطانَ ويدفعُه عنك فلا يُلقي إليك مثلَه خِيفةً من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفتَ هفوةَ مسلم بحجّةٍ لا شكّ فيها فانصحْه في السرّ ولا يخدعنَّك الشيطانُ فيدعوك إلى اغتيابِه، وإذا وعظتَهُ فلا تعِظْه وأنت مسرورٌ باطّلاعِك على نقصِه فينظرُ إليك بعين التعظيم وتنظرُ إليه بالاستصغار، ولكن اقصدْ تخليصَه من الإِثم وأنت حزينٌ كما تحزنُ على نفسك إذا دخلَك نقصٌ، وينبغي أن يكون تركُه لذلك النقص بغير وعظك أحبّ إليك من تركه بوعظك‏.‏ هذا كلام الغزالي‏.‏
قلت‏:‏ قد ذكرنا أنه يجبُ عليه إذا عرضَ له خاطرٌ بسوء الظن أن يقطعَه، وهذا إذا لم تدعُ إلى الفكر في ذلك مصلحةٌ شرعية، فإذا دعتْ جازَ الفكرُ في نقيصته والتنقيب عنها كما في جرح الشهود والرواة وغير ذلك مما ذكرناه في باب ما يُباح من الغيبة‏.‏
 بابُ كَفَّارةِ الغيْبةِ والتَّوْبَةِ منها
اعلم أن كلّ من ارتكب معصيةً لزمه المبادرةُ إلى التوبة منها، والتوبةُ من حقوق اللّه تعالى يُشترط فيها ثلاثة أشياء‏:‏ أن يُقلع عن المعصية في الحال، وأن يندمَ على فعلها، وأن يَعزِمَ ألاّ يعود إليها‏.‏
والتوبةُ من حقوق الآدميين يُشترط فيها هذه الثلاثة، ورابع‏:‏ وهو ردّ الظلامة إلى صاحبها، أو طلب عفوه عنها والإِبراء منها؛ فيجبُ على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حقّ آدمي، ولا بدّ من استحلاله مَن اغتابَه، وهل يكفيه أن يقول‏:‏ قد اغتبتُك فاجعلني في حلّ، أم لا بُدَّ أن يبيّنَ ما اغتابه به‏؟‏ فيه وجهان لأصحاب الشافعي رحمهم اللّه‏:‏ أحدهما يُشترط بيانُه، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصحّ؛ كما لو أبرأه عن مال مجهول‏.‏ والثاني لا يُشترط، لأن هذا مما يُتسامحُ فيه فلا يُشترط علمه بخلاف المال‏.‏ والأوّل أظهرُ، لأن الإِنسانََ قد يسمحُ بالعفو عن غيبة دونَ غِيبة؛ فإن كان صاحبُ الغيبةِ ميّتاً أو غائباً فقد تعذّرَ تحصيلُ البراءة منها؛ لكن قال العلماء‏:‏ ينبغي أن يُكثرَ الاستغفار له والدعاء ويُكثر من الحسنات‏.‏
واعلم أنه يُستحبّ لصاحب الغِيبة أن يبرئه منها ولا يجبُ عليه ذلك لأنه تبرّعٌ وإسقاطُ حقّ، فكان إلى خِيرته، ولكن يُستحبّ له استحباباً متأكداً الإِبراء، ليخلِّصَ أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوزَ هو بعظيم ثواب اللّه تعالى في العفو ومحبة اللّه سبحانه وتعالى، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ وطريقهُ في تطبيب نفسه بالعفو أن يذكِّرَ نفسَه أن هذا الأمر قد وقعَ، ولا سبيلَ إلى رفعه فلا ينبغي أن أُفوِّتَ ثوابَه وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِن ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏43‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ العَفْوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏199‏]‏‏.‏ والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة‏.‏
وفي الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخيهِ‏"‏ (46)‏ ‏.‏ وقد قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ من اسْتُرضي فلم يرضَ فهو شيطان‏.‏ وقد أنشد المتقدّمونَ (47)‏ ‏:‏
قيلَ لي قد أساءَ إليك فلانٌ * ومُقام الفَتَى على الذُّلِّ عَارُ
قلتُ قدْ جاءَنَا وأحْدَثَ عُذْراً * دِيةُ الذنبِ عِندنَا الاعْتذَارُ
فهذا الذي ذكرناهُ من الحثَ على الإِبراء عن الغيبة هو الصواب‏.‏ وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ لا أُحَلِّلُ مَن ظلمني، وعن ابن سيرين‏:‏ لم أُحرّمها عليه فأُحلِّلُهَا له، لأن اللّه تعالى حرّم الغيبةَ عليه، وما كنتُ لأُحَلِّلَ ما حرّمه اللّه تعالى أبداً‏.‏ فهو ضعيفٌ أو غلطٌ، فإن المُبرىءَ لا يحلِّلُ محرّماً، وإنما يُسقط حقاً ثبتَ له، وقد تظاهرت نصوصُ الكتاب والسنّة على استحباب العفو وإسقاط الحقوق المختصّة بالمسقِط‏.‏ أو يُحمل كلامُ ابن سيرين على أني لا أُبيح غيبتي أبداً، وهذا صحيح، فإن الإِنسانَ لو قال‏:‏ أبحتُ عرضي لمن اغتابني لم يَصرْ مباحاً، بل يَحرمُ على كل أحد غِيبتُه كما يَحرم غيبة غيره‏.‏
وأما الحديث‏:‏ ‏"‏أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكُونَ كأبي ضَمْضَمٍ، كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قالَ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي على النَّاسِ‏"‏ (48) فمعناه‏:‏ لا أطلبُ مَظلمتي ممّن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا يَنفعُ في إسقاط مَظلمة كانت موجودة قبل الإِبراء‏.‏ فأما يحدثُ بعدَه فلا بدّ من إبراء جديد بعدَها، وباللّه التوفيق‏.‏
 بابٌ في النميمة
قد ذكرنا تحريمها ودلائلَها وما جاء في الوعيد عليها وذكرنَا بيانَ حقيقتها ولكنه مختصرٌ، ونزيدُ الآن في شرحه‏.‏ قال الإِمام أبو حامد الغزالي رحمه اللّه‏:‏ النميمةُ إنما تُطلق في الغالب على مَن يَنمُّ قولَ الغير إلى المقول فيه، كقوله‏:‏ فلان يقولُ فيك كذا، وليست النميمةُ مخصوصةً بذلك، بل حدّها كشف ما يكره كشفُه، سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالث، وسواء كان الكشفُ بالقول أو الكتابة أو الرمز أو الإِيماء أو نحوها، وسواء كان المنقولُ من الأقوال أو الأعمال، وسواء كان عيباً أو غيره، فَحَقِيْقَةُ النميمة إفشاءُ السرّ وهتكُ الستر عمّا يُكره كشفُه، وينبغي للإِنسان أن يسكتَ عن كلِّ ما رآهُ من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدةٌ لمسلم أو دفعُ معصية، وإذا رآهُ يُخفي مالَ نفسه فذكره فهو نميمة‏.‏ قال‏:‏  وكلُّ مَنْ حُمِلت إليه نميمة وقيل له‏:‏ قال فيك فلان كذا، لزمه ستة أمور‏:
 الأول‏:‏ أن لا يصدقه، لأن النَّمامَ فاسقٌ وهو مردود الخبر‏.‏
 الثاني‏:‏ أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبّح فعله‏.
 الثالث‏:‏ أن يبغضَه في اللّه تعالى فإنه بغيض عند اللّه تعالى، والبغضُ في اللّه تعالى واجب‏.‏
 الرابع‏:‏ أن لا يظنّ بالمنقول عنه السوء لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظنّ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏12‏]‏‏.‏
 الخامس‏:‏ أن لا يحملَك ما حُكي لك على التجسس والبحث عن تحقيق ذلك، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَجَسَّسُوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏12‏)‏‏.‏
 السادس‏:‏ أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمّامَ عنه فلا يحكي نميمته‏.‏
وقد جاء أن رجلاً ذَكَرَ لعمرَ بن عبد العزيز رضي اللّه عنه رجلاً بشيء، فقال عمر‏:‏ إن شئتَ نظرنَا في أمرك، فإن كنتَ كاذباً فأنتَ من أهل هذه الآية‏:‏ ‏{‏إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏6‏]‏ وإن كنتَ صادقاً فأنتَ من أهل هذه الآية‏:‏ ‏{‏هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏11‏]‏ وإن شئتَ عفونا عنك، قال‏:‏ العفو يا أميرَ المؤمنين‏!‏ لا أعودُ إليه أبداً‏.‏
ورفع إنسانٌ رُقعةً إلى الصاحب بن عبّاد يحثُّه فيها على أخذ مال يتيم، وكان مالاً كثيراً، فكتبَ على ظهرها‏:‏ النميمةُ قبيحةٌ وإن كانت صحيحةً، والميّتُ رحمه اللّه، واليتيمُ جبرَه اللّه، والمالُ ثَمَّرَهُ اللّه، والساعي لعنه اللّه‏.‏
 بابُ النهي عن نَقْلِ الحَديثِ إلى وُلاةِ الأُمور إذا لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ لخوفِ مَفْسدةٍ ونحوِهَا
1/908 روينا في كتابي أبي داود والترمذي، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه، قال‏:‏قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يُبَلِّغْني أحَدٌ منْ أصْحابِي عَنْ أحَدٍ شَيْئاً، فإني أُحِبُّ أنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنا سَلِيمُ الصَّدْرِ‏"‏‏.‏‏(49)
 بابُ النَّهي عن الطعن في الأَنْسَابِ الثَّابتةِ في ظاهِر الشَّرْعِ
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإِسراء‏:‏36‏]‏‏.‏
1/909 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ ‏"‏اثْنَتانِ في النَّاسِ هُمَا بِهمْ كُفْرٌ‏:‏ الطَّعْنُ في النَّسَبِ، وَالنِّياحَةُ على المَيِّت‏"‏‏.‏‏(50)
............
 ‏

ما يَقولُ عندَ دُخول الحمَّام.الإِعراض عن الجاهلين.وَعظِ الإِنسانِ مَنْ هُو أجلّ منه. الأمر بالوفاءِ بالعهدِ والوَعْدِ.استحباب دُعاء الإِنسان لمن عَرَضَ عليه مالَه أو غيرَه.ما يقولُه المسلمُ للذميّ إذا فعلَ به مَعْرُوفاً.ما يقولُه إذا رَأى مِن نفسِه أو ولده أو مالِه أو غير ذلكَ شيئاً فأعجبَهُ وخاف أن يصيبه بعينه وأنْ يتضرّرَ بذلك.ما يقول إذا رأى ما يُحِبّ وما يَكره.ما يقولُ إذا نظَرَ إلى السَّماء.ما يَقول إذا تطيَّرَ بشيء.ما يَقولُ إذا اشترى غُلاماً أو جَاريةً أو دابّةً، وما يقولُه إذا قَضى دَيْناً. ما يقولُ مَن لا يَثبتُ على الخَيْلِ ويُدعى لهُ به.نهيِ العالم وغيرِه أن يُحدِّثَ الناسَ بما لا يَفهمونه، أو يُخافُ عليهم من تحريف معناه وحملِهِ على خلاف المراد منه.استنصات العالم والواعظِ حاضري مجلسِه ليتوَفَّروا على استماعِه.الحَثّ على المُشَاورة.الحَثِّ على طِيْبِ الكَلاَم. استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب.المزاح.الشَّفاعَة. استحباب التَّبْشيرِ والتَّهنئةِ.جَواز التعجّب بلفظ التَّسبيحِ والتَّهليلِ ونحوهما.الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ.

 بابُ الإِعراض عن الجاهلين
قال اللَّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وَأعْرضْ عَنِ الجاهلينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏199‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا وَلَكُمْ أعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏55‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلى عَنْ ذِكْرِنا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏9‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏85‏]‏
1/823 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما كان يومُ حُنين آثرَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ناساً من أشرافِ العربِ في القسمة، فقال رجلٌ‏:‏ واللّه إن هذه قسمةٌ ما عُدلَ فيها، وما أُريدَ فيها وجهُ اللّه، فقلت‏:‏ واللّه لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأتيتُه فأخبرتُه بما قال، فتغيَّرَ وجهُه حتى كان كالصِرْف، ثم قال‏:‏ فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ثم قال‏:‏ يَرْحَمُ اللّه مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ‏"‏ قلت‏:‏ الصرف بكسر الصاد المهملة وإسكان الراء، وهو صبغ أحمر‏.‏ (1)
2/824 وروينا في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قَدِمَ عُيينة بنُ حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكانَ من النفرِ الذين يُدنيهم عمرُ رضي اللّه عنه، وكان القرّاءُ أصحابُ مجلسِ عمرَ رضي اللّه عنه ومشاورته كُهُولاً كانوا أو شبّاناً، فقال عيينة لابن أخيه‏:‏ يا بن أخي، لك وجهٌ عندَ هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ فأذنَ له عمر، فلما دخلَ قال‏:‏ هِيْ يا بن الخطاب، فو اللّه ما تُعطينا الجزل ولا تحكمُ فينا بالعدل، فغضبَ عمرُ رضي اللّه عنه حتى همّ أن يُوقع به، فقال له الحرّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين‏!‏ إن اللّه تعالى قال لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏{‏خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏199‏]‏ وإن هذا من الجاهلين، واللّه ما جاوزَها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللّه تعالى‏.‏ (2) ‏.‏ و‏"‏هِي‏"‏‏:‏ بكسر الهاء وسكون الياء، كلمة تهديد، وقيل‏:‏ هي ضمير وثمَّ محذوف أي‏:‏ هي داهية‏.‏ وفي نسخة هيه بهاء السكت في آخره، وفي أخرى إيه، وهما بمعنى‏:‏ زدني‏.‏‏)‏
 بابُ وَعظِ الإِنسانِ مَنْ هُو أجلّ منه
فيه حديثُ ابن عباس في قصة عمر رضي اللّه عنه في الباب قبلَه‏.‏
اعلم أن هذا البابَ مما تتأكدُ العنايةُ به، فيجبُ على الإِنسان النصيحةُ والوعظُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر لكل صغير وكبير إذا لم يغلبْ على ظنه ترتُّبُ مفسدةٍ على وعظه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏125‏]‏ وأما الأحاديثُ بنحو ما ذكرنا فأكثرُ من أن تُحصر‏.‏
وأما ما يفعله كثيرٌ من الناس من إهمال ذلك في حقّ كبار المراتب وتوهمهم أنَّ ذلك حياء، فخطأٌ صريحٌ وجهلٌ قبيحٌ، فإن ذلك ليس بحياء، وإنما هو خَوَرٌ ومهانةٌ وضعفٌ وعجزٌ، فإن الحياءَ خيرٌ كلُّه، والحياءُ لا يأتي إلا بخير، وهذا يأتي بشرٌ، فليس بحياء، وإنما الحياءُ عند العلماء الربانيين والأئمة المحققين‏:‏ خُلُق يبعثُ على ترك القبيح، ويمنعُ من التقصير في حقّ ذي الحقّ، وهذا معنى ما رويناه عن الجُنيد رضي اللّه عنه في رسالة القشيري قال‏:‏ الحياءُ رؤيةُ الآلاء، ورؤيةُ التقصير، فيتولد بينهما حالة تُسمَّى حياء‏.‏ وقد أوضحتُ هذا مبسوطاً في أوّل شرح صحيح مسلم، وللّه الحمد، واللّه أعلم‏.‏
 بابُ الأمر بالوفاءِ بالعهدِ والوَعْدِ
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عاهَدْتُم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏91‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الَّذينَ أمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوْفُوا بالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏34‏]‏‏.‏ والآيات في ذلك كثيرة، ومن أشدّها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الَّذينَ أمَنوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏3‏]‏
1/825 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ‏:‏ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خانَ‏"‏ زاد في رواية ‏"‏وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ‏"‏ والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية‏.‏ (3)
وقد أجمعَ العلماءُ على أن مَن وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهيّ عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجبٌ أو مستحبّ‏؟‏ فيه خلاف بينهم؛ ذهب الشافعيُّ وأبو حنيفة والجمهورُ إلى أنه مستحبّ، فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم؛ وذهبَ جماعةٌ إلى أنه واجب، قال الإِمامُ أبو بكر بن العربي المالكي‏:‏ أجلُّ مَن ذهبَ إلى هذا المذهب عمرُ بن عبد العزيز، قال‏:‏ وذهبتِ المالكية مذهباً ثالثاً أنه إن ارتبط الوعدُ بسبب كقوله‏:‏ تزوّج ولك كذا، أو احلف أنك لا تشتمني ولك كذا، أو نحو ذلك، وجب الوفاء، وإن كان وعداً مُطلقاً لم يجب‏.‏ واستدلّ مَن لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية‏:‏ تلزم قبل القبض‏.‏
 بابُ استحباب دُعاء الإِنسان لمن عَرَضَ عليه مالَه أو غيرَه
1/826 روينا في صحيح البخاري وغيره، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما قدموا المدينة نزل عبدُ الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال‏:‏ أُقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتيّ، قال‏:‏ بارك اللّه لك في أهلك ومالك‏.‏ (4)
 بابُ ما يقولُه المسلمُ للذميّ إذا فعلَ به مَعْرُوفاً
اعلم أنه لا يجوز أن يُدعى له بالمغفرة وما أشبهها مما لا يُقال للكفار، لكن يجوزُ أن يُدعى بالهداية وصحةِ البدن والعافية وشبهِ ذلك‏.‏
1/827 روينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ استسقى النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فسقاه يهوديٌّ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جَمَّلَكَ اللَّهُ‏"‏ فما رأى الشيب حتى ماتَ‏.(5)
 بابُ ما يقولُه إذا رَأى مِن نفسِه أو ولده أو مالِه أو غير ذلكَ شيئاً فأعجبَهُ وخاف أن يصيبه بعينه وأنْ يتضرّرَ بذلك
1/828 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العَيْنُ حَقٌّ‏"‏‏.‏(6)
2/829 وروينا في صحيحيهما، عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها‏:‏ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم رأى في بيتها جاريةً في وجهها سفعة فقال‏:‏ ‏"‏اسْتَرْقُوا لَهَا، فإنَّ بِهَا النَّظْرَةَ‏"‏‏.‏(7)
قلتُ‏:‏ السَّفعة بفتح السين المهملة وإسكان الفاء‏:‏ هي تغيّر وصفرة‏.‏ وأما النظرة فهي العين، يُقال صبيّ منظور‏:‏ أي أصابته العين‏.‏
3/830 وروينا في صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العَيْنُ حَقٌ، وَلَوْ كانَ شَيْءٌ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العَيْنُ، وَ إِذَا اسْتُغْسلْتم فاغْسِلُوا‏"‏‏.‏‏(8)
قلتُ‏:‏ قال العلماء‏:‏ الاستغسال أن يُقال للعائن، وهو الصائب بعينه الناظر بها بالاستحسان‏:‏ اغسلْ داخلَ إِزارك مما يلي الجلد بماء، ثم يُصبّ على العين، وهو المنظور إليه‏.‏
وثبت عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان يُؤمر العائن أن يَتوضأ ثم يغتسل منه المعين‏.‏ رواه أبو داود (9)‏ بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم‏.‏
4/831 وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتعوّذُ من الجانّ وعين الإِنسان حتى نزلت المعوّذتان، فلما نزلتا أخذَ بهما وتركَ ما سواهما‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (10)
5/832 وروينا في صحيح البخاري حديث ابن عباس؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يُعوِّذ الحسن والحسين‏:‏ ‏"‏أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلّ شَيْطانٍ وَهامَّةٍ وَمنْ كُلّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ، ويقول‏:‏ إن أباكما كانَ يعوّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ‏"‏‏.‏(11)
6/833 وروينا في كتاب ابن السني، عن سعيد بن حكيم رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا خافَ أن يُصيبَ شيئاً بعينه قال‏:‏ ‏"‏اللََّهُمَّ بارِكْ فِيهِ وَلا تَضُرّهُ‏"‏‏.‏‏(12)
7/834 وروينا فيه، عن أنس رضي اللّه عنه‏,‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ رأى شَيْئاً فَأعْجَبَهُ فَقالَ‏:‏ ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، لَمْ يَضُرَّهُ‏"‏‏.‏‏(13)
8/835 وروينا فيه، عن سهل بن حنيف رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا رأى أحَدُكُمْ ما يُعْجِبُهُ في نَفْسِهِ أوْ مَالِهِ فَلْيُبَرّكْ عَلَيْهِ، فإنَّ العَيْنَ حَقُّ‏"‏‏.‏(14)
9/836 وروينا فيه، عن عامر بن ربيعة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إِذَا رأى أحدُكم من نفسِه ومالِه وأعْجَبَهُ ما يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بالبَرَكَةِ‏"‏‏.‏(15)
وذكر الإِمامُ أبو محمد القاضي حسين من أصحابنا رحمهم اللّه في كتابه التعليق في المذهب قال‏:‏ نظرَ بعضُ الأنبياء ـ صلواتُ اللّه وسلامُه عليهم أجمعين ـ إلى قومه يوماً فاستكثَرهم وأعجبُوه، فماتَ منهم في ساعة سبعون ألفاً، فأوحى اللّه سبحانه وتعالى إليه‏:‏ أنَّكَ عِنْتَهُمْ، وَلَوْ أنَّكَ إذْ عِنْتَهُمْ حَصَّنْتَهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا، قال‏:‏ وَبأيّ شَيْءٍ أُحَصّنُهُمْ‏؟‏ فأوحى اللّه تعالى إليه‏:‏ تقولُ‏:‏ حَصَّنْتُكُمْ بالحَيِّ القَيُّومِ الَّذي لا يَمُوتُ أبَداً، وَدَفَعْتُ عَنْكُمُ السُّوءَ بِلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ‏.‏ قال المعلّق عن القاضي حسين‏:‏ وكان عادة القاضي رحمه اللّه إذا نظرَ إلى أصحابه فأعجبَه سَمْتُهم وحسنُ حالهم، حصَّنهم بهذا المذكور، واللّه أعلم‏.‏
 بابُ ما يقول إذا رأى ما يُحِبّ وما يَكره
1/837 روينا في كتاب ابن ماجه وابن السني، بإسناد جيد، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رأى ما يُحِبّ قال‏:‏ ‏"‏الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ‏"‏ وإذا رأى ما يكره قال‏:‏ ‏"‏الحَمْدُ لِلَّهِ على كلّ حالٍ‏"‏ قال الحاكم أبو عبد اللّه‏:‏ هذا حديث صحيح الإِسناد‏(16)
 بابُ ما يقولُ إذا نظَرَ إلى السَّماء
يُستحبّ أن يقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النَّار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏191‏]‏ إلى آخر الآيات، لحديث ابن عباسٍ رضي اللّه عنهما المخرّج في صحيحيهما أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك، وقد سبقَ بيانُه (17) ، واللّه أعلم‏.‏
 بابُ ما يَقول إذا تطيَّرَ بشيء
1/838 روينا في صحيح مسلم، عن معاوية بن الحكم السلميّ الصحابي رضي اللّه عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه‏!‏ منَّا رجال يتطيرون، قال‏:‏ ‏"‏ذلكَ شَيْءٌ يَجِدُونَه في صُدُورِهِمْ، فَلا يَصُدَّنّهُمْ‏"‏‏.‏(18)
2/839 وروينا في كتاب ابن السني وغيره، عن عروة (19) بن عامر الجهنيّ رضي اللّه عنه قال سُئل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن الطِّيَرة فقال‏:‏ ‏"‏أصْدَقُها الفأَلُ، وَلا يَرُدُّ مُسْلِماً، وَإِذَا رأيتُمْ مِنَ الطِّيَرَةِ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ فَقولُوا‏:‏ اللَّهُم لا يأتِي بالحَسَناتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا يَذْهَبُ بالسَّيِّئاتِ إِلاَّ أنْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ‏"‏‏.‏‏(20)
 بابُ ما يَقولُ عندَ دُخول الحمَّام
قيل‏:‏ يستحبّ أن يُسمِّيَ اللّه تعالى، وأنْ يسألَه الجنّةَ، ويستعيذَه من النار‏.‏
1/840 روينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نِعْمَ البَيْتُ الحَمَّامُ يَدْخُلُهُ المُسْلِمُ، إذَا دَخَلَهُ سألَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الجَنَّةَ وَاسْتَعاذَهُ مِنَ النَّارِ‏"‏‏.‏‏(21)
 بابُ ما يَقولُ إذا اشترى غُلاماً أو جَاريةً أو دابّةً، وما يقولُه إذا قَضى دَيْناً
يُستحبّ في الأوّل أن يأخذَ بناصيته ويقول‏:‏ اللَّهُمَّ إني أسألُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما جُبِلَ عَلَيْهِ‏.‏
وقد سبق في كتاب أذكار النكاح الحديث الوارد في نحو ذلك في سنن أبي داود وغيره، ويقول في قضاء الدَّين ‏"‏بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ وَمالِكَ‏"‏ و‏"‏جَزَاكَ خَيْراً‏"‏ ‏(22)
 بابُ ما يقولُ مَن لا يَثبتُ على الخَيْلِ ويُدعى لهُ به
1/841 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ شكوتُ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أني لا أثبتُ على الخيل، فضربَ بيده في صدري وقال‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هادِياً مَهْدِيّاً‏"‏‏.‏‏(23)
 بابُ نهيِ العالم وغيرِه أن يُحدِّثَ الناسَ بما لا يَفهمونه، أو يُخافُ عليهم من تحريف معناه وحملِهِ على خلاف المراد منه
1/842 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لمعاذ رضي اللّه عنه حين طوَّل الصلاة بالجماعة‏:‏ ‏"‏أفتَّانٌ أنْتَ يا مُعاذُ‏؟‏‏!‏‏"‏‏.‏‏(24)
2/843 وروينا في صحيح البخاري، عن عليّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ حدّثوا الناسَ بما يَعرفون، أتحِبُّون أن يُكذَّب اللَّهُ ورسولُه صلى اللّه عليه وسلم‏؟‏‏(25)(‏ البخاري ‏(‏127‏)‏ ، والمراد بقوله ‏"‏يعرفون‏"‏ أي‏:‏ يفهمون‏.‏‏)‏
 بابُ استنصات العالم والواعظِ حاضري مجلسِه ليتوَفَّروا على استماعِه
1/844 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال لي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏اسْتَنْصِتِ الناسَ، ثم قال‏:‏ لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ‏"‏‏.‏‏(26)
 بابُ ما يقولُه الرجلُ المُقتدى به إذا فعل شيئاً في ظاهره مخالفةٌ للصوابِ مع أنه صَوَابٌ
اعلم أنه يُستحبُّ للعالم والمعلّم والقاضي والمفتي والشيخ المربّي وغيرهم ممّن يقتدى به ويؤخذ عنه‏:‏ أن يجتنب الأفعالَ والأقوالَ والتصرّفات التي ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقّاً فيها، لأنه إذا فعلَ ذلك ترتَّبَ عليه مفاسد من جملتها‏:‏ توهم كثير ممّن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً وأمراً معمولاً به أبداً، ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه وإطلاق ألسنتهم بذلك؛ ومنها أن الناس يُسيئون الظنّ به فينفرون عنه، ويُنَفِّرون غيرهم عن أخذ العلم عنه وتَسقط رواياته وشهادته، ويبطلُ العمل بفتواه، ويذهبُ ركون النفوس إلى ما يقولُه من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة؛ فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها‏؟‏ فإن احتاج إلى شيء من ذلك وكان محقّاً في نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهرَه أو ظهرَ أو رأى المصلحةَ في إظهاره ليعلم جوازه وحكمُ الشرع فيه، فينبغي أن يقولَ‏:‏ هذا الذي فعلتُه ليس بحرام، أو إنما فعلتُه لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه الذي فعلتُه، وهو كذا وكذا، ودليلُه كذا وكذا‏.‏
1/845 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن سهل بن سعدٍ الساعديّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قامَ على المِنبر، فكبَّر على الأرض، ثم عادَ إلى المنبر حتى فرغَ من صلاتِه، ثم أقبلَ على الناس فقال‏:‏ ‏"‏أيُّها النَّاسُ‏!‏ إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتي‏"‏ والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ كحديث ‏"‏إنَّهَا صَفِيَّةُ‏"‏ ‏(27)
وفي البخاري (28) ‏:‏ أن عليّاً شربَ قائماً وقال‏:‏ رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلَ كما رأيتموني فعلتُ‏.‏ والأحاديثُ والآثارُ في هذا المعنى في الصحيح مشهورة‏.‏
 بابُ ما يقولُه التابعُ للمتبوعِ إذا فعلَ ذلك أو نحوه
اعلم أنه يُستحبّ للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممّن يُقتدى به شيئاً في ظاهره مخالفة للمعروف أن يسأله عنه بنيّة الاسترشاد، فإن كان قد فعلَه ناسياً تداركَه، وإن كان فعلَه عامِداً وهو صحيحٌ في نفس الأمر، بَيّنه له‏:‏
1/846 فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أُسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال‏:‏ دفعَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عَرَفَةَ حتى إذا كان بالشِّعب نزلَ، فَبالَ ثم توضأ، فقلتُ‏:‏ الصلاةَ يا رسول اللّه‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏الصَّلاةُ أمامَكَ‏"‏‏.‏‏(29)
قلتُ‏:‏ إنما قال أُسامة ذلك، لأنه ظنّ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم نسي صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها قربَ خروجه‏.‏
2/847 وروينا في صحيحيهما، قولَ سعد بن أبي وقاص‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ ما لك عن فلان‏؟‏ واللّه إني لأراه مؤمناً‏.‏ (30)
3/848 وفي صحيح مسلم، عن بريدة؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم صلَّى الصلواتِ يومَ الفتح بوُضوء واحد، فقال عمر‏:‏ لقد صنعتَ اليومَ شيئاً لم تكنْ تصنعه، فقال‏:‏ ‏"‏عَمْداً صَنَعْتُهُ يا عُمَرُ‏!‏‏"‏ ونظائر هذا كثيرة في الصحيح مشهورة‏.‏ (31)
 بابُ الحَثّ على المُشَاورة
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ مشهورة‏.‏
وتُغني هذه الآية الكريمة عن كلّ شيء، فإنه إذا أمرَ اللّه سبحانه وتعالى في كتابه نصّاً جليّاً، نبّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم بالمشاورة مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره‏؟‏‏.‏
واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن يَثقُ بدينه وخبرته وحذقه ونصيحته ووَرَعه وشفقته‏.‏ ويُستحبّ أن يُشاور جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر، ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة كالسلطان والقاضي ونحوهما، والأحاديث الصحيحة في مشاورة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أصحابَه ورجوعِه إلى أقوالهم كثيرة مشهورة، ثم فائدة المشاورة القَول من المستشار إذا كان بالصفة المذكورة، ولم تظهر المفسدة فيما أشار به، وعلى المستشار بذل الوسع في النصيحة وإعمال الفكر في ذلك‏.‏
1/849 فقد روينا في صحيح مسلم، عن تميم الداريّ رضي اللّه عنه،عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏الدّينُ النَّصِيحَةُ، قالوا‏:‏ لمن يا رسول اللّه‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ لِلَّهِ وكِتابِهِ وَرَسُولِهِ وأئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ‏"‏‏.‏(32)
2/850 وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المُسْتَشارُ مُؤْتَمَنٌ‏"‏‏.(33)
 بابُ الحَثِّ على طِيْبِ الكَلاَم
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏88‏]‏
1/851 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عديّ بن حاتم رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ‏"‏‏.‏‏(34)
2/852 وروينا في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْها أوْ تَرْفَعُ لَهُ عَليْها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، قال‏:‏ وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلّ خُطْوَةٍ تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ‏"‏‏.‏‏(35)
قلتُ‏:‏ السُّلاَمَى بضم السين وتخفيف اللام‏:‏ أحدُ مفاصل أعضاء الإِنسان، وجمعه‏:‏ سُلامَيَات بضم السين وفتح الميم وتخفيف الياء، وتقدم ضبطها في أوائل الكتاب‏.‏
3/853 وروينا في صحيح مسلم عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه قال‏:‏قال لي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ‏"‏‏.‏(36)
 بابُ استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب
1/854 روينا في سنن أبي داود، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏كان كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كلُّ مَن يسمعُه‏.‏ ‏(37)
2/855 وروينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أنه كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثاً‏.‏ (38)
 بابُ المزاح
1/856 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه،أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقولُ لأخيه الصغير‏:‏ ‏"‏يا أبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُّغَيْرُ‏"‏‏.‏
2/857 وروينا في كتابي أبي داود والترمذي، عن أنس أيضاً؛أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏يا ذَا الأُذُنَيْنِ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ ‏(39)
3/858 وروينا في كتابيهما أيضاً؛أن رجلاً أتى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ احملني، فقال‏:‏ ‏"‏إني حامِلُكَ على وَلَدِ النَّاقَةِ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ وما أصنعُ بولد الناقة‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وَهَلْ تَلدُ الإِبلَ إِلاَّ النُّوقُ‏؟‏‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (40)
4/859 وروينا في كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏قالوا‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ إنك تداعبنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إني لا أقُولُ إِلاَّ حَقَّاً‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (41)
5/860 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تُمَارِ أخاكَ وَلا تُمازِحْهُ وَلا تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ‏"‏‏.‏‏(42)
قال العلماء‏:‏ المزاحُ المنهيُّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوم عليه، فإنه يُورث الضحك وقسوةَ القلب، ويُشغل عن ذكر اللّه تعالى والفكر في مهمات الدين، ويؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإِيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقطُ المهابةَ والوقارَ‏.‏ فأما ما سَلِمَ من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعله، فإنه صلى اللّه عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منعَ منه قطعاً، بل هو سنّةٌ مستحبةٌ إذا كان بهذه الصفة، فاعتمدْ ما نقلناه عن العلماء وحقَّقناه في هذه الأحاديث وبيان أحكامها، فإنه مما يَعظمُ الاحتياجُ إليه، وباللّه التوفيق‏.‏
 بابُ الشَّفاعَة
اعلم أنه تُستحبّ الشفاعة إلى ولاة الأمر وغيرهم من أصحاب الحقوق والمستوفين لها ما لم تكن شفاعةً في حدٍّ أو شفاعةً في أمر لا يجوز تركهُ؛ كالشفاعة إلى ناظرٍ على طفل أو مجنون أو وقف، أو نحو ذلك في ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه كلُّها شفاعة محرّمة تحرم على الشافع، ويحرم على المشفوع إليه قبولها، ويحرم على غيرهما السعي فيها إذا علمها؛ ودلائلُ جميع ما ذكرته ظاهرة في الكتاب والسنّة وأقوال علماء الأمة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها، وكانَ اللَّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏85‏]‏ المقيت‏:‏ المقتدر والمقدّر، هذا قول أهل اللغة، وهو محكيٌّ عن ابن عباس وآخرين من المفسرين‏.‏ وقال آخرون منهم المقيت‏:‏ الحفيظ، وقيل المقيت‏:‏ الذي عليه قوت كل دابة ورزقها‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ المقيت المجازي بالحسنة والسيئة، وقيل المقيت الشهيد، وهو راجع إلى معنى الحفيظ‏.‏ وأما الكِفْل فهو الحظ والنصيب، وأما الشفاعة المذكورة في الآية‏:‏ فالجمهور على أنها هذه الشفاعة المعروفة، وهي شفاعة الناس بعضهم في بعض؛ وقيل الشفاعة الحسنة أن يشفع إيمانه بأنه يقاتل الكفار، واللّه أعلم‏.‏
1/861 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال‏:‏ ‏"‏اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّه على لسانِ نَبِيِّهِ ما أحَبَّ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ما شاءَ‏"‏ وفي رواية أبي داود ‏"‏اشْفَعُوا إِليَّ لِتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ على لِسانِ نَبِيِّهِ ما شاءَ‏"‏ وهذه الرواية توضّح معنى رواية الصحيحين‏.‏ ‏(43)
2/862 وروينا في صحيح البخاري،عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قصة بريرة وزوجها، قال‏:‏ قال لها النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لَوْ رَاجعتِيهِ‏؟‏ قالت‏:‏ يا رسول اللّه تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ إنما أشْفَعُ، قالتْ‏:‏ لا حاجةَ لي فيه‏"‏‏.‏(44)
3/863 وروينا في صحيح البخاري،عن ابن عباس، قال‏:‏ لما قَدِمَ عيينةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر نزلَ على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكانَ من النفر الذين يُدنيهم عمرُ رضي اللّه عنه، فقال عيينة‏:‏ يا بن أخي‏!‏ لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ له عمرَ، فلما دخل قال‏:‏ هي يا بن الخطاب‏!‏ فو اللّه ما تُعطينا الجزلَ ولا تحكمُ بيننا بالعدل، فغضبَ عمر حتى همّ أن يُوقع به، فقال الحرّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين‏!‏ إن اللّه عزّ وجلّ قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ، وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وإن هذا من الجاهلين، فو اللّه ما جاوزها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللّه تعالى‏.‏ ‏(45)
 بابُ استحباب التَّبْشيرِ والتَّهنئةِ
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهُو قائِمٌ يُصلّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏39‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولمَّا جاءتْ رُسُلُنا إبرَاهِيمَ بالبُشْرَى‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏31‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏69‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏101‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏28‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قالُوا لا تَوْجَلْ إنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏53‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْرأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بإسْحَقَ وَمنْ وَرَاءِ إسْحَقَ يَعْقُوبََ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏71‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ‏}‏ الآية‏[‏آل عمران‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكَ الَّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عبادَهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحات‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏23‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏17ـ18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأبْشِرُوا بالجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏30‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏12‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏21‏]‏‏.‏
وأما الأحاديث الواردة في البشارة فكثيرة جداً في الصحيح مشهورة، فمنها حديث تبشير خديجة رضي اللّه عنها ببيت في الجنة من قصب لا نصبَ فيه ولا صخب (46)‏ ‏.‏ ومنها حديث كعب بن مالك رضي اللّه عنه المخرّج في الصحيحين (47) في قصة توبته قال‏:‏ سمعت صوت صارخ يقولُ بأعلى صوته‏:‏ يا كعبَ بن مالك أبشر، فذهبَ الناسُ يبشروننا، وانطلقتُ أتأمّم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتلقاني الناسُ فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون‏:‏ ليهنئك توبةُ اللّه تعالى عليك حتى دخلتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حولَه الناس، فقام طلحةُ بن عبيد اللّه يُهرول حتى صافحني وهنّأني، وكان كعبٌ لا ينساها لطلحة؛ قال كعبُ‏:‏ فلما سلَّمتُ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وهو يُبْرقُ وجهُه من السرور‏:‏ ‏"‏أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمُّكَ‏"‏‏.‏
 بابُ جَواز التعجّب بلفظ التَّسبيحِ والتَّهليلِ ونحوهما
1/864 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لقيه وهو جُنُب، فانسلَّ فذهبَ فاغتسلَ، فتفقَّده النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلما جاء قال‏:‏ ‏"‏أيْنَ كُنْتَ يا أبا هُرَيْرَةَ‏؟‏‏!‏‏"‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ لقيتني وأنا جُنُب فكرهتُ أن أُجالسَك حتى أغتسل، فقال‏:‏ ‏"‏سُبْحانَ اللَّه‏!‏ إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ‏"‏‏.‏(48)
2/865 وروينا في صحيحيهما عن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏أن امرأة سألتِ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم عن غسلها من الحيض، فأمرَها كيف تغتسلُ قال‏:‏ ‏"‏خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّري بِهَا، قالت‏:‏ كيف أتطهرُ بها‏؟‏ قال‏:‏ تَطَهرِي بِهَا، قالت‏:‏ كَيْفَ‏؟‏ قال‏:‏ سبْحانَ اللَّهِ‏!‏ تَطَهَّرِي، فاجتذبتُها إليّ فقلتُ‏:‏ تتبعي أثرَ الدم‏"‏‏.‏(49)
قلتُ‏:‏ هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وباقيها روايات مسلم بمعناه، والفِرصة بكسر الفاء وبالصاد المهملة‏:‏ القطعة‏.‏ والمسك بكسر الميم‏:‏ وهو الطيب المعروف، وقيل الميم مفتوحة، والمراد الجلد، وقيل أقوال كثيرة‏:‏ والمختار أنها تأخذ قليلاً من مسك فتجعله في قطنة أو صوفة أو خرقة أو نحوها فتجعله في الفرج لتُطيِّبَ المحلّ وتزيلَ الرائحةَ الكريهة؛ وقيل‏:‏ إن المطلوب منه إسراع علوق الولد، وهو ضعيف، واللّه أعلم‏.‏
3/866 وروينا في صحيح مسلم عن أنس رضي اللّه عنه‏:‏أن أُختَ الرُّبَيِّع أُمّ حارثة جرحت إنساناً، فاختصموا إلى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏القِصَاصَ القِصَاصَ‏"‏‏.‏ فقالت أُمّ الرُبَيِّع‏.‏ يا رسول اللّه‏!‏ أتقتصّ من فلانة واللّه لا يُقتصُّ منها‏؟‏ فقال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سُبْحانَ اللَّهِ يا أُمَّ الرُبَيِّع‏!‏ القِصَاصُ كتابُ اللّه‏"‏‏(50)‏ قلتُ‏:‏ أصل الحديث في الصحيحين، ولكن هذا المذكور لفظ مسلم وهو غرضنا هنا، والرُبَيِّع
بضم الراء وفتح الباء الموحدة وكسر الياء المشددة‏.‏
4/867 وروينا في صحيح مسلم، عن عِمرانَ بن الحُصين رضي اللّه عنهما في حديثه الطويل‏:‏ في قصة المرأة التي أُسرت، فانفلتتْ وركبتْ ناقةَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ونذرتْ إن نجّاها اللّه تعالى لتنحرنّها، فجاءت فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏سُبْحانَ اللّه‏!‏ بِئْسَ ما جَزَتْها‏"‏‏.‏‏(51)
5/868 وروينا في صحيح مسلم،عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه، في حديث الاستئذان أنه قال عمر رضي اللّه عنه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وفي آخره‏:‏ يا ابْنَ الخَطابِ‏!‏ لا تَكُونَنَّ عَذَاباً على أصْحابِ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ سبحانَ اللّه‏!‏ إنما سمعتُ شيئاً فأحببتُ أن أتَثَبَّتَ‏.‏ (52)
6/869 وروينا في الصحيحين في حديث عبد اللّه بن سلام الطويل لما قيل‏:‏إنك من أهل الجنة، قال‏:‏ سبحان اللّه‏!‏ ما ينبغي لأحد أن يقول ما لم يعلم، وذكر الحديث‏.‏ (53)
 بابُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ
هذا الباب أهمُّ الأبواب، أو من أهمِّها لكثرة النصوص الواردة فيه، لعظم موقعه وشدّة الاهتمام به، وكثرة تساهل أكثر الناس فيه، ولا يمكن استقصاء ما فيه هنا لكن لا نخلّ بشيء من أصوله، وقد صنَّفَ العلماء فيه متفرّقات، وقد جمعتُ قطعةً منه في أوائل شرح صحيح مسلم، ونبّهت فيه على مهمات لا يُستغنى عن معرفتها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ؛ ويأْمرونَ بالمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عَن المنكَر وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏199‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالمُؤْمِنُونَ والمُؤْمناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ، يأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏71‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏79‏]‏ والآيات بمعنى ما ذكرته مشهورة‏.‏
1/870 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال‏:‏سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ‏"‏‏.‏(54)
2/871 وروينا في كتاب الترمذي، عن حذيفة رضي اللّه عنه،عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ تَعالى أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجَابَ لَكُمْ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(55)
3/872 وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بأسانيد صحيحةعن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال‏:‏ يا أيّها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏105‏]‏ وإني سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إِنَّ النَّاسَ إذَا رأوا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا على يَدَيْهِ أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ مِنْهُ‏"‏‏.‏‏(56)
4/873 وروينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، عن أبي سعيد،عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أفْضَلُ الجهادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عنْدَ سُلْطَانٍ جائرٍ‏"‏، قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (57)
قلت‏:‏ والأحاديثُ في الباب أشهر من أن تُذكر، وهذه الآية الكريمة مما يَغترّ بها كثير من الجاهلين ويحملونها على غير وجهها، بل الصواب في معناها‏:‏ أنكم إذا فعلتم ما أُمرتم به فلا يَضرّكم ضَلالةُ مَن ضلّ‏.‏ ومن جملة ما أمروا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية قريبة المعنى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏18‏]‏‏.‏
واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط وصفات معروفة ليس هذا موضع بسطها، وأحسنُ مظانّها إحياء علوم الدين، وقد أوضحتُ مهماتها في شرح مسلم، وباللّه التوفيق‏.‏