الأحد، 1 مايو 2022

عاشِقٌ .. في غرفة العمليات !! د.محمد بن عبد الرحمن العريفي

 

عاشِقٌ .. في غرفة العمليات !! د.محمد بن عبد الرحمن العريفي/21/10/1425هـ  http://www.saaid.net/ 

من السويد

رن جرس هاتفي يوماً .. اتصال من " السويد " .. السلام عليكم .. الشيخ محمد ..؟! وعليكم السلام .. نعم ..

يا شيخ .. أنا طبيب أحضر الدراسات العليا هنا في مالمو- السويد ، وأطبق منذ خمس سنوات في أحد المستشفيات السويدية ..

هنا يا شيخ في هذا المستشفى .. إذا جاءهم مريض مصاب بمرض خطير .. وكان المرض قد تمكن منه .. والفرصة في حياته قليلة ..

يضعون له مغذياً .. ويجعلون مع المغذي مادة مسكنة للألم ومادة أخرى قاتلة ..

فيبقى المريض يومين أو ثلاثة على الأكثر .. ثم يموت ..

فيستلمه أهله .. وهم يظنون أن وفاته طبيعية .. وهو في الحقيقة مقتول ..

قلت : أعوذ بالله .. هذا ..

فقاطعني قائلاً .. عفواً يا شيخ .. لم ينته السؤال بعد ..

اليوم يا شيخ كنت في قسم الطوارئ .. فجاء إلى المستشفى مريض مسلم .. سويدي من أصل باكستاني .. وهو يعاني من أحد الأمراض الخطيرة .. وقد تمكن المرض من جسمه .. أدخلوه قبل قليل إلى القسم الخاص بهؤلاء المرضى .. ووضعوا له المغذي القاتل ..

فماذا يجب عليَّ يا شيخ .. هل أخبر أهل المريض .. أم لا ..

ومضى صاحبي يبين لي عدد من قتلوا بهذه الطريقة .. ويتكلم عن مآسيهم .. و ..

كان عاطفياً .. ومتحمساً جدا ً .. مضى يقص ويقص ..

أما أنا فقد ذهبت بي الأفكار بعيداً ..

جعلت أتأمل .. ماذا تمثل الحياة بالنسبة لهؤلاء .. كأس .. وغانية .. وفراش ..

فإذا عجز أحدهم عن هذه الأمور لمرض أو ألم .. رأوا أنه لا حاجة لبقائه حياً .. فلماذا يعيش !! .. نعم لماذا يعيش ؟

وفرق بين من يأكل ليعيش .. ومن يعيش ليأكل ..

لا يدرون أن بقاءه حياً .. ولو مريضاً مقعداً .. يرفع الله به درجاته ..

فكل تسبيحة صدقة .. وكل تحميدة صدقة .. وكل تهليلة صدقة ..

كل ألم يصيبه .. حتى الشوكة يشاكها يكفر الله بها من خطاياه ..

وكم من شخص كان المرض بابه الذي دخل من خلاله إلى الجنة ..

فلا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض .. وليس عليه خطيئة ..

قال الإمام أحمد : لولا المصائب لقدمنا القيامة مفاليس ..

وروى البخاري عن أبي هريرة t أن النبي e قال( ما يصيب المؤمن من وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه  ) ..

وقال : ( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة )

الترمذي عن جابر قال e : ( يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) ..

عن أنس مرفوعاً( إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) ..

وأخرج مسلم أنه e قال ( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير ) ..

فقبل أن أبحر في هذا الكتاب ..

أقول لكل مريض – مهما كن مرضه – ارض بما قسم الله لك ، واعلم أنك إن صبرت واحتسبت ، صار هذا المرض تكفيراً لخطيئتك .. ورفعة في درجتك ..

وأظهر الرضا والتسليم لكل من زارك ، ليعلموا أن لله عباداً يحبونه ، يرضون بقضائه ، ويصبرون على بلائه ، يباهي الله بهم أهل السماء ، ويجعلهم قدوة لأهل الأرض ..

أفلا تكون منهم !!

 

إنا وجدناه صابراً

كان أيوب عليه السلام .. صاحب مال وجاه وزوجات وأولاد ..

وكان رجلاً قد رفع الله قدره فجعله نبياً ..

في لحظة من ليل أو نهار .. فقد أهله وولده وماله .. ولم يبق معه إلا زوجة واحدة ..

ثم ازداد عليه البلاء .. فأصابه مرض عضال .. تعجب منه قومه ..

وخافوا من عدوى مرضه .. فأخرجوه من بينهم ..

فعاش في خيمة في الصحراء .. قد هدّه المرض .. وتقرّح جسده .. وعظم ضُرُّه ..

وتركه الناس فلم يقربوه ..

أما مرضه فقد سُئل المفسر مجاهد رحمه الله .. فقيل له :

ما المرض الذي أصاب أيوب .. أهو الجدري ؟

فقال : لا .. بل أعظم من الجدري .. كان يخرج في جسده كمثل ثدي المرأة .. ثم ينفقئ فيخرج منه القيح والصديد الكثير ..

وطالت سنين المرض بأيوب عليه السلام .. وهو جبل صامد ..

وفي يوم هادئ .. بكت زوجته عند رأسه .. فسألها : ما يبكيك ؟

قالت : تذكرت ما كنا فيه من عز وعيش .. ثم نظرت إلى حالنا اليوم .. فبكيت ..

فقال لها : أتذكرين العز الذي كنا فيه .. كم تمتعنا فيه من السنين ؟

قالت : سبعين سنة .. فقال : فكم مضى علينا في هذا البلاء ؟

قال : سبع سنين .. فقال : فاصبري حتى نكون في البلاء سبعين سنة .. كما تمتعنا في الرخاء سبعين .. ثم اجزعي بعد لك أو دعي ..

ومر عليه الزمان .. وهو يتقلب على فراش المرض .. لكنه كان بطلاً ..

نعم لو مررت به وهو مريض .. ولحم جسده يتساقط لرأيت أنك تمر بجبل صامد .. لا تزعزعه الأعاصير .. ولا تحركه الرياح ..

لسان ذاكر .. وقلب شاكر .. وجسد صابر .. وعين باكية .. ودعوة ماضية ..

لم يفرح الشيطان منه بجزع .. وفي ساعة من نهار .. مر قريباً منه رجلان .. فلما رأيا ضره ومرضه .. قال أحدهما للآخر : ما أظن الله ابتلى أيوب إلا بمعصية لا نعلمها ..

عندها رفع أيوب عليه السلام يده ..

و.. ( نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ..

فلما نظر الله إليه .. نظر إلى عينين باكيتين .. ما نظرت إلى حرام ..

ويدين داعيتين .. ما لمست حراماً .. ولا امتدت إلى حرام ..

ولسان حامد .. ورأس راكع ساجد ..

عندها هزت دعواته أبواب السماء فقال الله : ( فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ..

وأثنى الله عليه فقال:  braket_r إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ braket_l ..

وما أجمل أن ينظر الله إليك أنت في مرضك .. فيراك صابراً محتسباً فترتفع إلى درجة ( نعم العبد ) ..

 

عروة بن الزبير !!

عروة بن الزبير كان من كبار التابعين ..

فهو ابن الصحابي الجليل الزبير بن العوام ..

أصيبت رجله بالآكلة .. فجعلت عظامه تتآكل ويسقط عنها اللحم ..

فرآه الأطباء .. فقرروا قطع رجله حتى لا يمتد المرض إلى بقية جسده ..

فلما بدؤوا يقطعونها أغمي عليه ..

فقطعوها .. وألقوها جانباً .. فبدأ نزيف الدم يشتد عليه ..

فغلوا زيتاً ثم غمسوا عروق الرجل فيه حتى توقف الدم ..

ثم لفوا على الرجل خرقة .. وانتظروا عند رأسه

فلما أفاق .. نظر إلى رجله المقطوعة ملقية في طست .. تسبح في دمائها ..

فقال : إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم ..

فبدأ الناس يدخلون عليه ويعزونه في رجله .. ويصبرونه على مصابه ..

فلما أكثروا عليه الكلام .. رفع بصره إلى السماء ..

وقال : اللهم كان لي أطراف أربعة ..فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ثلاثة وتترك واحداً .. اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت

وكان حوله أولاده السبعة .. يخدمونه .. ويسلونه ..

فدخل أحدهم إلى أصطبل الخيول لحاجة .. فمر وراء حصان عسيف فثار الحصان وضرب الغلام بحافره .. فأصابت الضربة أسفل بطنه .. فمات ..

ففزع من حوله إليه .. وحملوه ..

فلما غُسل وكفن .. جاء أبوه يتكئ على عكاز ليصلي عليه ..

فلما رآه قال : اللهم إنه كان لي بنون سبعة .. فأخذت واحداً وأبقيت ستة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ستة وتترك واحداً ..

اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت ..

فما أجمل هذا الرضا ..

كم من الناس يمرض بطنه فيجزع ويصيح .. وينسى سلامة رأسه ورجله ..

وكم منهم من تمرض عينه .. فينسى سلامة لسانه وأذنه ..

فاحمد الله على أن ابتلاك بمرض واحد .. ولم يجمع عليك عشرة أمراض ..

والتفت إلى من حولك من المرضى واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

لا .. ولا يكفينا منك ذلك ، فالمؤمل فيك أكثر ..

نريد منك أن تكون مهدياً هادياً .. صابراً مصبّراً .. لا ترى مريضاً منكسراً إلا جبرته .. ولا حزيناً إلا أفرحته .. ولا متشكياً إلا وعظته ..

فتكون – وأنت مريض – منار خير لغيرك .. وأنت أهل لذلك بإذن الله ..

 

للمرض سببان !!

صاحبي كان مشهوراً بقراءة الرقية الشرعية على المصابين بالأمراض النفسية .. وربما قرأها على المصابين بالسحر والعين ..

قال لي :

جاءني يوماً أحد كبار التجار .. يشكو ألماً شديداً في يده اليسرى ..

كان واضحاً أن الألم شديد .. وجه شاحب .. وعينان زائغتان ..

جلس بين يدي بكل كلفة ثم قال : يا شيخ اقرأ علي !!

قلت : مم تشكو ؟!

قال : ألم شديد .. لا أعرف سببه .. راجعت الأطباء .. المستشفيات .. التحاليل .. كل شيء سليم .. لا أدري ما أصابني .. لعلها عين سبقت إليَّ ..

قرأت عليه الرقية .. ودعوت له ..

وجاءني في اليوم الثاني وقرأت ودعوت ..

واليوم الثالث كذلك .. والرابع .. وطالت الأيام .. والمرض لا يزداد إلا شدة ..

فصارحته يوماً : يا فلان .. قد يكون ما أصابك بسبب دعوة من مظلوم آذيته في ماله أو نفسه أو عرضه .. أو ..

فتغير وجهه وصرخ بي : أظلم !! أظلم ماذا .. أنا رجل شريف .. أنا .. أنا ..

هدأت من غضبه .. واعتذرت ..

ثم خرج ..

جاءني بعد عشرة أيام .. فإذا هو في صحة تامة .. أصرّ على أن يقبل رأسي ويدي .. ثم قال : أنت والله سبب شفائي بعد توفيق الله ..

قلت : كيف .. والقراءة لم تنفع معك ..

قال : لما خرجت من عندك جعل الألم يزداد .. وجعلت كلماتك ترن في أذني .. نعم قد أكون ظلمت أحداً أو آذيته ..

فتذكرت أني لما أردت أن أبني قصري .. كان هناك أرض ملاصقة له فأردت شراءها لأجعلها حديقة للقصر .. وكانت الأرض ملكاً لأيتام وأمهم ..

أرسلت إليها أطلب شراء الأرض .. فرفضت .. وقالت : وماذا أفعل بالمال إذا بعتها .. بل دعوا الأرض على حالها .. حتى يكبر الأولاد ثم يتصرفون بها ..

حاولت إقناعها .. أغريتها بالمال .. فأبت ..

لكن الأرض كانت نهمة بالنسبة إليّ ..

قلت : فماذا فعلت ؟

قال : أخذت الأرض - بطرقي الخاصة - .. واستخرجت لها إذن بناء من الجهات المختصة – أيضاً بطرقي الخاصة - .. وبنيتها ..

قلت : والمرأة ؟ والأيتام ؟

بلغها الخبر .. فكانت تأتي وتنظر إلى العمال يشتغلون في أرضها .. وتسبهم وتبكي .. وهم يظنونها مجنونة .. فلا يلتفتون إليها ..

وأذكر أنها كانت ترفع يديها وتدعو وهي تبكي ..

ومنذ ذلك الحين بدأت في يدي آلام لا أنام منها في الليل .. ولا أرتاح في النهار ..

قلت : طيب .. وماذا فعلت لها ؟

قال : ذهبت إليها .. واعتذرت منها .. وبكيت .. وأعطيتها أرضاً في موقع آخر أحسن من الأرض الأولى .. فرضيت ودعت لي واستغفرت ..

وخرجت من عندها .. ولجأت إلى الله بالدعاء وطلب المغفرة .. حتى بدأ الألم يتلاشى شيئاً فشيئاً .. حتى زال ولله الحمد ..

انتهت القصة ..

ولا أعني بإيرادي لها أن كل مرض يقع فهو عقوبة من الله لعبده .. كلا فلقد مرض النبيون والصالحون ..

ولكن الذي أعنيه أن المرض يخرج الله به من العبد الكبر والعجب والفخر ..

فلو دامت للعبد جميع أحواله .. مال .. جاه .. صحة .. أولاد .. لتجاوز وطغى .. ونسي المبدأ والمنتهى ..

ولكن الله يسلط عليه الأمراض والأسقام .. فيجوع كرهاً ويمرض كرهاً ..

ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً .. ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ..

أحياناً يريد أن يفهم الشيء فيجهله .. ويريد أن يتذكر الشيء فينساه ..

وأحياناً يشتهي الشيء وفيه هلاكه .. ويكره الشيء وفيه حياته .. بل لا يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه الله ما أعطاه من سمعه وبصره ..

أو من يدري !! ربما اختلس الله عقله .. أو سلب منه جميع نعمه ..

فأي أحد من أذل العبد المتكبر لو عرف نفسه !!

ومن هنا سلط الله على العبد الأمراض والآفات .. لينكسر ويقبل على الله ..

وهذا هو السر في استجابة دعوة هؤلاء : المريض .. والمظلوم .. والمسافر .. والصائم .. وذلك لقربهم من الله وانكسار قلوبهم فغربة المسافر .. وتعب الصائم .. وذل المظلوم .. وآلام المريض ..

فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه ..

 

جولة في .. مستشفى المجانين

كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..

كان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية ..أو كما يسميه الناس مستشفى المجانين ..

ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة ..

كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..

التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أن أذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..

قال : أين ؟ صاحبك الشيخ عبد الله .. مسافر .. والدكتور أحمد اتصلت به ولم يجب .. أو تريد أن نمر المكتبة التراثية .. أو ..

قلت : كلا .. بل : مستشفى الأمراض العقلية ..

قال : المجانين !! قلت : المجانين ..

فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..

قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..

سكت عبد العزيز يفكر في حالهم .. شعرت أنه حزين .. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم ..

أخذني بسيارته إلى هناك ..

أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كل جانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..

قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى ..

أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :

وليس الخبر كالمعاينة ..

دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك ..

كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..

مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه ..

التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!

قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..

قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟

قال :منذ أكثر من عشر سنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..

بعد خطوات مشيناها .. مررنا على غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة .. ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..

حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..

سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..

شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاً لما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟

فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثار وأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..

فيوماً تتكسر أصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج .. فيضرب كما يشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..

أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به

ثم مضينا نسير بين غرف المرضى ..

حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذا يتلفت .. وهذا يرقص ..

وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..

تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين ؟

فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..

لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلى المساء ..

قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟

قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!

خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم ..

سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟

قال : بقي غرفة واحدة .. لعل فيها عبرة جديدة .. تعال ..

وأخذ بيدي إلى غرفة كبيرة .. فتح الباب ودخل .. وجرني معه ..

كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيته في غرفة سابقة .. مجموعة من المرضى .. كل منهم على حال .. راقص .. ونائم ..

و .. و .. عجباً ماذا أرى ؟؟

رجل جاوز عمره الخمسين .. اشتعل رأسه شيباً .. وجلس على الأرض القرفصاء .. قد جمع جسمه بعضه على بعض .. ينظر إلينا بعينين زائغتين .. يتلفت بفزع ..

كل هذا طبيعي ..

لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع .. بل أثور .. هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة ..

تغير وجهي .. وامتقع لوني .. والتفت إلى الطبيب فوراً .. فلما رأى حمرة عيني ..

قال لي .. هدئ من غضبك .. سأشرح لك حاله ..

هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه .. وحاول بلعه .. وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب .. وكلها على مثل هذا الحال ..

فتركناه هكذا صيفاً وشتاءً .. والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله ..

خرجت من هذه الغرفة .. ولم أستطع أن أتحمل أكثر .. قلت للطبيب : دلني على الباب .. للخروج ..

قال : بقي بعض الأقسام ..

قلت : يكفي ما رأيناه ..

مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..

وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه .. وقال :

يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئات الملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..

وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..

ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..

أخذت أمشي بين غرف المرضى متفكراً ..

سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..

يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..

قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذ منه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفى المجانين ..

وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاً كبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنى عنه ماله وحسبه ..!!

ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوة وعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراً يتنقل بين الحرف المتواضعة لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ..

ومن الناس من يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..

فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاك العقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..

فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحممممممد لله ..

 

حلاوة الجزاء

قال أبو إبراهيم ..

كنت أمشي في صحراء .. فضللت الطريق .. فوقفت على خيمة قديمة ..

فنظرت فيها فإذا رجل جالس على الأرض .. بكل هدوء ..

وإذا هو قد قطعت يداه .. وإذا هو أعمى .. وليس عنده أحد من أهل بيته .. رأيته يتمتم بكلمات ..

اقتربت منه وإذا هو يردد قائلاً : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً .. الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله ..

فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه .. وإذا هو مقطوع اليدين .. أعمى العينين ..

وإذا هو لا يملك لنفسه شيئاً ..

نظرت حوله .. أبحث عن ولد يخدمه .. أو زوجة تؤانسه .. لم أر أحداً ..

أقبلت إليه أمضي .. شعر بحركتي .. فسأل : من ؟ من ؟

قلت : السلام عليكم .. أنا رجل ضللت الطريق .. ووقفت على خيمتك ..

وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟

فقال : أنا رجل مريض .. وقد تركني الناس .. وتوفي أكثر أهلي ..

قلت : لكني سمعتك تردد : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..!! فبالله عليك ! فضلك بماذا ؟!! وأنت أعمى .. فقير .. مقطوع اليدين .. وحيد ..

فقال : سأحدثك عن ذلك .. ولكن سأطلب منك حاجة .. أتقضيها لي ؟

قلت : أجبني .. وأقضي حاجتك ..

فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع من البلاء .. ولكن : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به .. وأتصرف وأفكر ..

قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟

قلت : كثييييير .. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة .. وأعقل به الكلام .. وأعلم ما يدور حولي ؟ قلت : بلى ..

قال : فكم يوجد من الناس .. صمٌ لا يسمعون ؟ قلت : كثيييير ..

قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي .. وأبين به حاجتي ..

قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس بكمٌ .. لا يتكلمون ؟

قلت : كثيييير ..  قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد جعلني مسلماً .. أعبد ربي .. وأحتسب عنده أجري .. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى ..

قال : فكم يوجد من الناس من عباد الأصنام والصلبان .. وهم مرضى .. قد خسروا الدنيا والآخرة ..؟!!

قلت : كثيييير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

ومضى الشيخ يعدد نعم الله عليه .. وأنا أزداد عجباً من قوة إيمانه .. وشدة يقينه .. ورضاه بما أعطاه الله ..

كم من المرضى غيره .. ممن لم يبتلوا ولا بربع بلائه ..ممن شلهم المرض .. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم ..أو فقدوا بعض أعضائهم ..ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به ..

ومع ذلك .. عندهم من الجزع والتشكي .. والعويل والبكاء ..

بل وضعف الصبر وقلة اليقين بالأجر .. ما لو قسم على أمة لوسعهم ..

سبحت بتفكيري بعيييداً .. ولم يقطعه علي إلا قول الشيخ ..

هاه ..!!  أأذكر حاجتي ..؟ هل تقضيها .. ؟ قلت : نعم .. ما حاجتك ؟!

فخفض رأسه قليلاً .. ثم رفعه وهو يغص بعبرته وقال :

لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي .. عمره أربع عشرة سنة ..

هو الذي يطعمني ويسقيني .. ويوضئني .. ويقوم على كل شأني ..

وقد خرج البارحة يلتمس لي طعاماً .. ولم يرجع إلى الآن .. ولا أدري .. أهو حي يُرجى .. أم ميت ينسى ..

وأنا كما ترى .. شيخ كبير أعمى .. لا أستطيع البحث عنه ..

فسألته عن وصف الغلام .. فأخبرني ..فوعدته خيراً ..

 ثم خرجت من عنده .. وأنا لا أدري كيف أبحث عن الغلام .. وإلى أي جهة أتوجه ؟!

فبينما أنا أسير .. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه ..

إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير .. عليه سرب غربان قد اجتمعت على شيء .. فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور ..

فصعدت الجبل .. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت ..

فلما نظرت إلى مكان تجمعها .. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد .. وكأن ذئباً قد عدا عليه .. وأكله ثم ترك باقيه للطيور ..

لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ ..

نزلت من الجبل .. أجر خطاي .. وأنا بين حزن وحيرة .. هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده .. أم أرجع إليه وأحدثه بخير ولده ..؟!

توجهت نحو خيمة الشيخ .. بدأت أسمع تبيحه وتهليله ..

كنت متحيراً .. ماذا أقول .. وبماذا أبدأ ..

مرّ في ذاكرتي قصة نبي الله أيوب عليه السلام ..فدخلت على الشيخ .. وجدته كسيراً كما تركته ..سلمت عليه .. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده .. بادرني قائلاً :

أين الغلام ..

قلت : أجبني أولاً .. أيهما أحب إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟

قال : بل أيوب عليه السلام أحب إلى الله ..

قلت : فأيكما أعظم بلاءً .. أنت أم أيوب عليه السلام ؟

قال : بل أيوب ..

قلت إذن فاحتسب ولدك عند الله .. قد وجدته ميتاً في سفح الجبل .. وقد عدت الذئاب على جثته فأكلته ..فشهق الشيخ .. ثم شهق .. وجعل يردد .. لا إله إلا الله ..

وأنا أخفف عنه وأصبره ..ثم اشتد شهيقه .. حتى انكببت عليه ألقنه الشهادة ..

ثم مات بين يدي ..غطيته بلحاف كان تحته ..

ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه ..

فرأيت ثلاثة رجال على دوابهم .. كأنهم مسافرين .. فدعوتهم .. فأقبلوا إليّ ..

فقلت : هل لكم في أجر ساقه الله إليكم .. هنا رجل من المسلمين مات .. وليس عنده من يقوم به .. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه ..

قالوا : نعم ..

فدخلوا إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه .. فلما كشفوا عن وجهه ..

تصايحوا : أبو قلابة .. أبو قلابة ..

وإذا أبو قلابة .. شيخ من علمائهم .. دار عليه الزمان دورته .. وتكالبت عليه البلايا .. حتى انفرد عن الناس في خيمة بالية ..

قمنا بواجبه علينا .. ودفناه .. وارتحلت معهم إلى المدينة ..

فلما نمت تلك الليلة .. رأيت أبا قلابة في هيئة حسنة .. عليه ثياب بيض .. وقد اكتملت صورته .. وهو يتمشى في أرض خضراء ..

سألته : يا أبا قلابة .. ما صيرك إلى ما أرى ؟!

فقال : قد أدخلني ربي الجنة .. وقيل لي فيها ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) ..( القصة بتصرف يسير من السير للذهبي ) ..

 

وقفة مع .. عيادة المريض

لماذا نعود المريض ؟

لأجل ماله ؟ كلا .. فمن يعود الفقراء !!

لأجل قوته ؟ كلا .. فمن يعود الضعفاء !! أم لحسبه ونسبه وجماله ؟

كل هذه أسباب لا يَلْتفت إليها المخلصون .. وإنما نعوده لأجل الأجر والثواب ، والوقوف مع إخواننا المسلمين في كرباتهم ..

عن ثوبان t أنه e قال : ( من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة ) قيل يا رسول الله: وما خرفة الجنة ؟ قال جناها ) .. رواه مسلم ..
وعن علي
t أنه e قال : ( ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة ‘‘الثمر المخروف أو المجتنى’’ ) .. رواه الترمذي وحسنه ..

وعن أم سلمة t قال e ( إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ) ..رواه مسلم ..

وعن عائشة t أن رسول الله e كان إذا أتى مريضاً أو أتي به إليه قال : ( أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً ) .. متفق عليه ..



مريض البرسام

أحمد كان غلاماً صغيراً في حجر والده ..

ما تراه إلا ضاحكاً أو لاعباً .. أصابه ألم في رأسه .. صبر عليه .. ثم اشتد عليه الألم ..

حاولوا علاجه بشتى الطرق فلم يفلحوا ..

بدأ رأسه يكبر وينتفخ شيئاً فشيئاً .. وصار ما بين جلد رأسه وعظمه .. قيح وصديد .. لا يدرون له علاجاً ..

حتى ثقل رأسه وغاب عن وعيه ..

طرحوه على فراشه .. في بيت قديم .. جدرانه طين .. وسقفه من جذوع النخل ..

ينتظرون موته .. مضت عليه أيام وهو على هذا الحال .. لا يكاد يتحرك ..

وفي ليلة مظلمة .. كان السراج يشتعل معلقاً في سقف الغرفة ..

وأخوه جالس عند رأسه يترقب ..

وفجأة إذا بعقرب سوداء تخرج من بين أخشاب السقف .. وتمشي على الجدار وكأنها متوجهة نحو أحمد ..

كان أخوه يراها .. لكنه لم يتحمس لدفعها عنه .. فلعلها أن تلدغه فيرتاح ويرتاحون !!

أقبلت العقرب على أحمد .. قام أخوه مبتعداً .. يرقبها من بعيد ..

وصلت إلى الرأس المريض .. مشت عليه .. ثم لدغته ..

ثم تحركت قليلاً فلدغت .. ثم تحركت إلى موضع آخر من الرأس فلدغت ..

وجعل القيح والصديد يسيل بغزارة من أنحاء رأسه ..

والأخ ينظر إليه مندهشاً ..!!

ثم مشت العقرب تخوض في هذا القيح والصديد .. حتى وصلت إلى الجدار فصعدت عليه .. وعادت من حيث أتت ..

دعا الأخ أباه وإخوته فأقبلوا عليه ..

فلم يزالوا يمسحون الدم والصديد .. حتى ذهب انتفاخ الرأس ..

وفتح الغلام عينيه ..ثم قام معهم ..( القصة ذكرها التنوخي في كتابه الفرج ) .

فكم من محنة في طيها منحة .. ورب صابر كانت عاقبة صبره الفرج ..

وأفضل العبادات انتظار الفرج ..

الأمر الذي يجعل العبد يتعلق قلبه بالله وحده ..

وهذا ملموس وملاحظ على أهل المرض أو المصائب ..

وخصوصاً إذا يئس المريض من الشفاء من جهة المخلوقين  ..

وحصل له الإياس منهم .. وتعلق قلبه بالله وحده ..

وقال: يا رب .. ما بقي لهذا المرض إلا أنت .. فإنه يحصل له الشفاء بإذن الله ..

وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج ..

 

يرفعهم درجات

دخل رسول الله e يوماً على عائشة .. فإذا هي قد عصبت رأسها بعصابة ..

وأخذت تئن من شدة الألم ..

فقال : ما بالك يا عائشة ؟

قالت : الحمى .. لا بارك الله فيها ..

فقال : لا تسبي الحمى فإنها تأكل خطايا ابن آدم كما تأكل النار الحطب ..(رواه مسلم)

فالله قد يبتلي بعض عباده بالأمراض ليرفعهم درجات ..

وقد يكون للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله بأنواع البلاء ليرفعه إليها ..

روى ابن حبان عنه e قال : إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ..

وفي الأدب للبخاري عن أبي هريرة قال : ما من مرض يصيبني أحب إلى من الحمى  .. لأنها تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعددها 360 مفصلاً

 

البطل ..

 لم يكن أبو عبد الله يختلف كثيراًُ عن بقية أصدقائي .. لكنه – والله يشهد – من أحرصهم على الخير ..

له عدة نشاطات دعوية من أبرزها ما يقوم به أثناء عمله .. فهو يعمل مترجما في معهد الصم البكم ..

اتصل بي يوما وقال : ما رأيك أن أحضر إلى مسجدك اثنين من منسوبي معهد الصم لإلقاء كلمة على المصلين ..

تعجبت !! وقلت : صم يلقون كلمة على ناطقين ؟

قال : نعم .. وليكن مجيئنا يوم الأحد ..

انتظرت يوم الأحد بفارغ الصبر .. وجاء الموعد ..

وقفت عند باب المسجد أنتظر .. فإذا بأبي عبد الله يقبل بسيارته ..

وقف قريباً من الباب .. نزل ومعه رجلان .. أحدهما كان يمشي بجانبه ..

والثاني قد أمسكه أبو عبد الله يقوده بيده ..

نظرت إلى الأول فإذا هو أصم أبكم .. لا يسمع ولا يتكلم .. لكنه يرى ..

والثاني أصم .. أبكم .. أعمى .. لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى ..

مددت يدي وصافحت أبا عبد الله ..

كان الذي عن يمينه – وعلمت بعدها أن اسمه أحمد - ينظر إليّ مبتسماً .. فمددت يدي إليه مصافحاً ..

فقال لي أبو عبد الله - وأشار إلى الأعمى - :

سلم أيضاً على فايز .. قلت : السلام عليكم .. فايز ..

فقال أبو عبد الله : أمسك يده .. هو لا يسمعك ولا يراك ..

جعلت يدي في يده .. فشدني وهز يدي ..

دخل الجميع المسجد .. وبعد الصلاة جلس أبو عبد الله على الكرسي وعن يكينه أحمد .. وعن يساره فايز .. كان الناس ينظرون مندهشين .. لم يتعودوا أن يجلس على كرسي المحاضرات أصم ..التفت أبو عبد الله إلى أحمد وأشار إليه ..

فبدأ أحمد يشير بيديه .. والناس ينظرون .. لم يفهموا شيئاً ..

فأشرت إلى أبي عبد الله .. فاقترب إلى مكبر الصوت وقال :

أحمد يحكي لكم قصة هدايته .. ويقول لكم .. ولدت أصم .. ونشأت في جدة .. وكان أهلي يهملونني .. لا يلتفتون إليّ .. كنت أرى الناس يذهبون إلى المسجد .. ولا أدري لماذا ! أرى أبي أحياناً يفرش سجادته ويركع ويسجد .. ولا أدري ماذا يفعل ..

وإذا سألت أهلي عن شيء .. احتقروني ولم يجيبوني ..

ثم سكت أبو عبد الله والتفت إلى أحمد وأشار له ..

فواصل أحمد حديثه .. وأخذ يشير بيديه .. ثم تغير وجهه .. وكأنه تأثر ..

خفض أبو عبد الله رأسه ..ثم بكى أحمد .. وأجهش بالبكاء ..

تأثر كثير من الناس .. لا يدرون لماذا يبكي ..واصل حديثه وإشاراته بتأثر .. ثم توقف ..فقال أبو عبد الله : أحمد يحكي لكم الآن فترة التحول في حياته .. وكيف أنه عرف الله والصلاة بسبب شخص في الشارع عطف عليه وعلمه .. وكيف أنه لما بدأ يصلي شعر بقدر قربه من الله .. وتخيل الأجر العظيم لبلائه .. وكيف أنه ذاق حلاوة الإيمان ..

ومضى أبو عبد الله يحكي لنا بقية قصة أحمد ..

كان أكثر الناس مشدوداً متأثراً ..

لكني كنت منشغلاً .. أنظر إلى أحمد تارة .. وإلى فايز تارة أخرى .. وأقول في نفسي .. هاهو أحمد يرى ويعرف لغة الإشارة .. وأبو عبد الله يتفاهم معه بالإشارة .. ترى كيف سيتفاهم مع فايز .. وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ..!!

انتهى أحمد من كلمته .. ومضى يمسح بقايا دموعه ..

التفت أبو عبد الله إلى فايز ..

قلت في نفسي : هه ؟؟ ماذا سيفعل ؟!!

ضرب أبو عبد الله بأصابعه على ركبة فايز .. فانطلق فايز كالسهم .. وألقى كلمة مؤثرة ..تدري كيف ألقاها ؟

بالكلام ؟ كلا .. فهو أبكم .. لا يتكلم ..

بالإشارة ؟ كلا .. فهو أعمى .. لم يتعلم لغة الإشارة ..

ألقى الكلمة بـ ( اللمس ) .. نعم باللمس .. يجعل أبو عبد الله ( المترجم ) يده بين يدي فايز .. فيلمسه فايز لمسات معينة .. يفهم منها المترجم مراده .. ثم يمضي يحكي لنا ما فهمه من فايز .. وقد يستغرق ذلك ربع ساعة ..

وفايز ساكن هادئ لا يدري هل انتهى المترجم أم لا .. لأنه لا يسمع ولا يرى ..

فإذا انتهى المترجم من كلامه .. ضرب ركبة فايز .. فيمد فايز يديه ..

فيضع المترجم يده بين يديه .. ثم يلمسه فايز للمسات أخر ..

ظل الناس يتنقلون بأعينهم بين فايز والمترجم .. بين عجب تارة .. وإعجاب أخرى ..

وجعل فايز يحث الناس على التوبة .. كان أحياناً يمسك أذنيه .. وأحياناً لسانه .. وأحياناً يضع كفيه على عينيه ..

فإذا هو يأمر الناس بحفظ الأسماع والأبصار عن الحرام ..

كنت أنظر إلى الناس .. فأرى بعضهم يتمتم : سبحان الله .. وبعضهم يهمس إلى الذي بجانبه .. وبعضهم يتابع بشغف .. وبعضهم يبكي ..

أما أنا فقد ذهبت بعيييييداً ..

أخذت أقارن بين قدراته وقدراتهم .. ثم أقارن بين خدمته للدين وخدمتهم ..

الهم الذي يحمله رجل أعمى أصم أبكم .. لعله يعدل الهم الذي يحمله هؤلاء جميعاً ..

والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا

رجل محدود القدرات .. لكنه يحترق في سبيل خدمة هذا الدين .. يشعر أنه جندي من جنود الإسلام .. مسئول عن كل عاص ومقصر ..

كان يحرك يديه بحرقة .. وكأنه يقول يا تارك الصلاة إلى متى ..؟ يا مطلق البصر في الحرام إلى متى ..؟ يا واقعاً في الفواحش ؟ يا آكلاً للحرام ؟ بل يا واقعاً في الشرك ؟

كلكم إلى متى .. أما يكفي حرب الأعداء لديننا .. فتحاربونه أنتم أيضاً !!

كان المسكين يتلون وجهه ويعتصر ليستطيع إخراج ما في صدره ..

تأثر الناس كثيراً .. لم ألتفت إليهم .. لكني سمعت بكاء وتسبيحات ..

انتهى فايز من كلمته .. وقام .. يمسك ابو عبد الله بيده ..

تزاحم الناس عليه يسلمون ..

كنت أراه يسلم على الناس .. وأحس أنه يشعر أن الناس عنده سواسيه ..

يسلم على الجميع .. لا يفرق بين ملك ومملوك .. ورئيس ومرؤوس ..وأمير ومأمور ..

يسلم عليه الأغنياء والفقراء .. والشرفاء والوضعاء .. والجميع عنده سواء ..

كنت أقول في نفسي ليت بعض النفعيين مثلك يا فايز ..

أخذ أبو عبد الله بيد فايز .. ومضى به خارجاً من المسجد ..

أخذت أمشي بجانبهما .. وهما متوجهان للسيارة ..

والمترجم وفايز يتمازحان في سعادة غامرة ..

آآآه ما أحقر الدنيا .. كم من أحد لم يصب بربع مصابك يا فايز ولم يستطع أن ينتصر على الضيق والحزن ..

أين أصحاب الأمراض المزمنة .. فشل كلوي .. شلل .. جلطات .. سكري .. إعاقات .. لماذا لا يستمتعون بحياتهم .. ويتكيفون مع واقعهم ..

ما أجمل أن يبتلي الله عبده ثم ينظر إلى قلبه فيراه شاكراً راضياً محتسباً ..

مرت الأيام .. ولا تزال صورة فايز مرسومة أمام ناظري ..

التقيت بأبي عبد الله بعدها .. فسألته عن فايز ..

فقال : آآآه .. هذا الرجل الأعمى له أعاجيب .. قلت : كيف ..

قال : في حياتي لم أر أحرص على الصلاة من فايز ..

فايز من منطقة خارج الرياض .. وقد جعلنا له غرفة صغيرة في معهد الصم يسكن فيها .. ووكلنا أحد العمال يهتم به .. يطبخ طعامه .. يوقظه للصلاة  ..

كان العامل يأتي إليه عند كل صلاة .. يفتح الباب .. يحركه ..

فيقوم فايز ويتوضأ .. وينتظر في الأسفل عند باب المعهد ليأخذ العامل بيده إلى الصلاة ..

أحياناً يتأخر العامل .. فيضرب فايز الباب يستعجله .. فإذا تأخر العامل وخاف فايز فوات الصلاة مشى إلى المسجد .. وبينه وبين المسجد شارعان متواجهان .. يمشي وهو يلوح بيديه لأجل أن يراه أصحاب السيارات – إن كان هناك سيارات –

وكم من سيارات تصادمت بسببه .. وهو لا يدري عنهم ..

فايز له أعاجيب ..

في إحدى المرات جئت إلى المعهد عصراً فإذا مجموعة من الصم ينتظروني عند باب المعهد .. ويشيرون بأن فايز عنده مشكلة ..

أقبلت إلى فايز .. فلما رأيته فإذا هو غضباااان .. قد ألقى غترته جانباً .. ويشير بيديه ..والصم لا يفهونه ..

فلما وضعت يدي في يده .. عرفني .. فشد يدي .. وجعل يلمسني لمسات معينة .. ثم لمسته مثلها .. وسكن غضبه ..تدري ما الذي أغضبه ؟!

في فجر ذلك اليوم .. فاتته الصلاة مع الجماعة ..

وكان يقول : افصلوا هذا العامل .. استبلوه بغيره ..

ويدافع عبراته .. وأنا أسكن غضبه ..

فرحم الله فايز .. ورحمنا ..

 

الهم الكبير

ذهبت إلى دولة السويد في شهر رمضان ..

كنت في رحلة دعوية لإلقاء بعض المحاضرات ..

دعاني بعض الأخوة في أحد المراكز الإسلامية للقاء عدد من الشباب السويديين المسلمين ..

دخلت المركز بعد الظهر .. فإذا هم مجتمعون في حلقة ينتظرون ..

كانوا جالسين على الأرض ..

لفت نظري غلام لم يتعدَّ عمره خمس عشرة سنة .. اسمه محمد .. جنسيته سويدي .. لكنه من أصل صومالي ..

رأيته مقعداً على كرسي متحرك ..

وقد ربطت يداه في جانبي الكرسي لأنها تنتفض بشكل دائم ولا يملك التحكم فيها ..

وهو إلى ذلك كله لا يتكلم .. ورأسه ينتفض أيضاً طوال الوقت ..

أشفقت عليه لما رأيته ..

اقتربتُ منه .. فهشّ في وجهي وبدأ يتبسم وينظر إليَّ ويودّ لو كان يستطيع أن يقوم ..

سلمتُ عليه فإذا هو لا يفهم العربية لكنه يتكلم الإنجليزية والسويدية بطلاقة .. إضافة إلى اللغة الصومالية ..

بدأت أحدّثه عن المرض وفضله وعِظم أجر المريض .. وهو يهزّ رأسه موافقاً ..

لاحظتُ أن أمامه لوحاً صغيراً قد علّق عليه ورقة فيها مربعات صغيرة وفي كل مربع جملة مفيدة : شكراً .. أنا جائع .. لا أستطيع .. اتصل بصديقي .. الخ ..

فعجبتُ من هذه الورقة .. فأخبرني أحد الحاضرين أن هذا الغلام إذا أراد الكلام ركبوا على رأسه حلقة دائرية يمتدّ منها عصا صغيرة فيحرك رأسه بين هذه المربعات حتى يضع طرف العصا على المربع المطلوب فيفهمون منه ما يريد ..!!

وهذه هي الطريقة الوحيدة للتفاهم معه .. فهو لا يتكلم .. ولا يتحكم بحركة يديه ..

تكلمت معه عن فضل الله علينا بهذا الدين .. وأن المرء إذا وفق للإسلام فلا عليه ما فاته من الدنيا ..

فاكتشفتُ أن محمداً هذا من أكبر الدعاة .. كيف !!

أنا أخبرك بذلك :

وزارة الشئون الاجتماعية السويدية قد خصصت له رجلين موظفَين يأتيان لخدمته في الصباح .. واثنين يأتيانه في المساء ..

فإذا جاءه رجل غير مُسلم .. طلب منه عن طريق الإشارة على هذه الورقة أن يتصل بصديقه فلان ..

فإذا اتصل هذا الموظف بالصديق طلب منه محمد أن يسأل صديقه : ما هو الإسلام ؟

فيجيب الصديق على السؤال ..

فيحفظه الموظف ثم يشرحه لمحمد ..

ثم يطلب محمد من الموظف أن يسأل الصديق عن الفرق بين الإسلام والنصرانية ؟ ..

فيجيب عن ذلك ..

ثم يطلب منه أن يسأل عن حال المسلم وغير المسلم يوم القيامة ؟

فيجيب الصديق ويشرح الموظف ..

حتى إذا فهم الموظف الكلام كله أشار له محمد إلى درج المكتب فيفتحه ..

فيجد فيه كتباً في الدعوة إلى الإسلام .. فيأخذ منها ويقرأ ..

وقد تأثر بسبب ذلك أشخاص كثيرون ..

فلله درُّ محمد ما أكبر همّته .. لم يقعده المرض عن الدعوة .. بل ولا عن البشاشة والسرور ..

ارضَ بما قسم الله لك تكن مؤمناً ..

واعلم بأن كل إنسان محاسب عن القدرات التي أعطاه الله إياها .. السمع .. البصر .. اللسان .. العقل ..

وقد يتقبل الناس النصيحة من المريض المبتلى أكثر من تقبلهم لها من الصحيح المعافى ..

فلماذا لا تكون داعية وأنت بهذا الحال ؟ لست عاجزاً إن شاء الله ..

وقد تسألني وتقول :من أدعو ؟!

فأقول : أدعُ الأطباء .. الممرضين .. المرضى .. الزائرين ..

كن رجلاً مباركاً .. تنصح هذا في الاهتمام بالصلاة ..

وذاك في حفظ البصر والفرج .. والثالث في الاستفادة من وقته .. والرابع .. وهكذا .

 

خالد الأبكم

قال د.عبد العزيز :

كانت عيادتي ذلك اليوم مزدحمة بالمرضى ..

أكثرهم جاءوا من مناطق بعيدة وقرى نائية .. واضح هذا من مظاهرهم ولبسهم ..

جعلوا يدخلون العيادة بالترتيب .. أمراض متفاوتة .. وظروف متنوعة ..
دخل خالد .. طفل في العاشرة من عمره .. مع اثنين من المرافقين ..

كان قد راجعني مراراً .. مع رجل كبير كنت أظنه أباه .. ليتابع ضعف سمعه الذي يعاني منه منذ ولادته ..
جلس الثلاثة ..

فعرفت أن أحد المرافقين هو والده ..

والآخر الذي تعودت أن أراه معه .. وكان يتحدث طوال الوقت .. هو خاله الذي يهتم به ويتابع علاجه من سنوات ..
جلس الخال يتحدث بإسهاب عن خالد وكيف تحسن سمعه كثيراً مع السماعات التي ركبت في الفترة الأخيرة ..

كان الخال يتحدث بشفقة .. وكأن المرض فيه هو .. وكان يردد : هل تصدق يا دكتور أنه بهذه السماعات .. صار سمعه في المستوى الطبيعي بفضل الله تعالى ..
كان خاله سعيداً بهذا الأمر .. وكيف أن المعلمين في المدرسة التي يدرس فيها ( الخاصة بالصم والبكم ) متشجعون جداً لمستوى تحسن خالد الدراسي ...
قال الخال :

يا دكتور .. وقد جئتك هذه المرة بأبي خالد .. كي تصف له السماعة الملائمة لعله أن يتحسن سمعه هو الآخر ...
قلت : أبوه أيضاً لا يسمع ؟ قال : نعم .. منذ سنين طويلة ..
التفتُ إلى خالد .. سألته : كيف حالك ؟ أجابني بسرعة : الحمد لله .. بخير ..
قلت :كيف هي المدرسة ؟ فقال : جيدة ..
كان يسمع ويتكلم .. لكن نطقه ثقيل لا يزال يحتاج إلى تدريب وتقويم ..

لكن مستوى ذكائه يتماشى مع سنه الطبيعي ..
سألت خاله : ما دام سمع خالد في تحسن .. ويحتاج إلى كثرة كلام ليستقيم نطقه .. فأقترح أن تسرعوا بنقله إلى مدرسة عادية .. ليتعايش مع وضعه الجديد ..
سكت خاله .. وخفض رأسه .. وبدا وجهه حزيناً وكأني نكأت جروحاً .. 

أمارات تعجب كثيرة أراها على وجهه .. وكأنه لا يصدق أن الابن الصغير بات شخصاً عادياً .. له الحق في الحياة الطبيعية مثل غيره ..

قال : يجبي أن يبقى في مدرسة الصم البكم ..
قلت : لـمَ ؟ ما المشكلة معكم ؟ قال الخال :
أسرة خالد تسكن في قرية بعيدة ..

ولا أقدر أن أضعه في مدرسة عادية .. لأن خالد لا بد أن يحافظ على قدرته على التعامل مع الصم .. حتى يعرف كيف يحادث أهله !!
قلت : يحادث أهله ؟!! قال : نعم .. كل أعضاء الأسرة لا يسمعون .. الأب .. والأولاد ..
قلت : وخالد فقط الذي يتابع معنا العلاج ؟ قال : نعم ..

تعلم يا دكتور أنه من الصعب أن نترك القرية كلنا معاً في آن واحد .. وخالد أمره مهم ..
قلت : كم هي أعمار أخواته ؟ قال : أخته الكبرى تجاوزت الخامسة عشر تقريباً .. والثانية عمرها حوالي ثمانية أعوام ..
قلت له بعصبية : والآن جئتني بوالده المسن لكي نعالج مشكلة ضعف سمعه .. وتركت الأختين في الدار ..

وهما في بداية حياتهما ..؟! الأولى فقدت فرصتها في التعليم ...وربما في بناء أسرة أيضاً ... والثانية تريد أن تفقدها فرصتها هي الأخرى ؟
أليس هذا حراماً ؟! بل وتصر على أن يظل خالد في هذا الجو رغماً عن إرادته ..!!
بدأ الخال يدافع عن نفسه .. وأن الأمر ليس تمييزاً بقدر ما هو عدم قدرة على أن يأتي بهم أجمعين ؟
جلست فترة طويلة أناقش هذا الخال بأن الأمر مسئولية في عاتقه .. فكما يقدر على إحضار خالد في كل المواعيد ويعتني بها فمن حق أخواته أيضا أن يعشن حياة صحيحة ..
 وعدني الخال خيراً .. وشكر لي اهتمامي .. ومضى خارجاً ..
وقف عند الباب وقال :
أعدك ...أن أحضرهم كلهم ...في سيارتي الصغيرة .. حتى لو وضعتهم فوق بعضهم البعض .. تبسمت في داخلي ..
ليت كل الناس يحملون في داخلهم مثل هذا القلب الأبيض ..
ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته .. والله في عون العبد ما مادام العبد في عون أخيه ..

 

بين الطبيب والمريضة

يحق لنا جميعاً أن نتساءل !! متى يعالج الطبيب المرأة ؟

والجواب أن : الأصل أن الطبيبة هي التي تعالج بنات جنسها ..
لكن إذا لم يوجد طبيبة .. ووجدت الحاجة والضرورة فلا بأس أن يتولى العلاج طبيب رجل ..
فيكشف على المرأة المريضة بقدر الحاجة .. فإذا كان الألم في ساقها لم يجز أن ينظر إلى غيره .. وكذلك لو كان الألم في يدها فينظر إلى يدها فقط لعلاجها .. دون أن ينظر إلى وجهها وشعرها .. لقول الله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) ..
ولا يخلو الطبيب بالمرأة عند علاجها .. بل يبقى معها محرمها .. زوجها أو أبوها ..

فإن لم يكن محرم فتبقى الممرضة ..

ومن الأعاجيب أن أحدهم أدخل زوجته على طبيب الأسنان ، وجلس ينتظر بالخارج ، فقيل له : لماذا لا تدخل مع زوجتك ؟ فقال : حتى تأخذ راحتها !! ( لا تعليق !! ) ..

 

مع الطبيب

الطب مهنة شريفة .. وكان عيسى عليه السلام نبياً يعالج الناس .. فيبرئ الأكمه والأبرص .. بل كان يحيي الموتى بإذن الله ..

فهو مهنة شريفة وعمل رائد .. فحري بالطبيب الناصح أ، يتحلى بأمور ، منها :

1/ الأمانة والمحافظة على أسرار المرضى :

قال e : " من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة " .. رواه مسلم ..
فبعض الناس بحكم مهنته يكون مُطّلعاً على أسرار الآخرين ، كالطبيب والمفتي وأمين السر وغيرهم .. فهؤلاء يجب عليهم كتمان السر إلا إذا أذن صاحب السر بإفشائه ..

ولكن يجوز إفشاء السر للمصلحة كإبلاغ الجهات المختصة بإصابة المريض بمرض وبائي .. أو إبلاغ أحد الزوجين أن الآخر مصاب بمرض جنسي مُعدٍ كالإيدز مثلا ..

2/ عدم استغلال منصبه لمصالحه الشخصية :

خرجت يوماً من إحدى المحاضرات .. فجاءني شخص وقال :

يا شيخ أنا مسئول في شركة كبرى لإنتاج وتوزيع الأدوية .. وتصرف الشركة ملايين الريالات في الدعاية والتسويق .. وتضع تحت تصرفي سنوياً مبلغ مليون ريال إقامة علاقات مع الأطباء !! قلت : كيف ..

قال : نرسل للطبيب تعريفاً بمنتجاتنا .. ونبعث معه هدية .. ساعة .. طقم أقلام .. سماعة .. نتكفل له بتكاليف السفر لحضور بعض المؤتمرات الطبية .. أو تذاكر له ولعائلته لسفر سياحي ..

وكلما كان المستشفى الذي يعمل فيه الطبيب أكثر سحباً لمنتجاتنا علمنا أن الطبيب يكتب الوصفات بهذه الأدوية .. وبالتالي نزيده إكراماً .. وعموماً لنا طرق في معرفة الطبيب النشيط معنا دون غيره ..

قلت له : طيب .. هل يمكن أن يدفع تشجيعكم هذا الطبيب إلى الضرر بالمريض ؟

قال : تشجيعنا وهدايانا .. تدفع الطبيب إلى صرف منتاجاتنا مع ارتفاع سعرها عن غيرها .. مع إمكان الطبيب أن يصرف منتجاً لشركة أخرى له نفس المميزات والتأثير بسعر أقل ..

وكذلك يقوم الطبيب أحياناً بصرف أدوية للمريض غير ضرورية .. كبعض مسكنات الحرارة والفيتامينات .. مع عدم حاجة المريض الشديدة إليها غالباً .. ولكن لأجل أن يفيدنا .. ويستفيد ..

قلت : والضحية المريض المسكين .. وماله وعرق جبينه ..

قال : نعم .. لكن المريض - يا شيخ – مشتري الدواء لا محالة .. فنجعله يشتريه منا دون غيرنا ..

قلت : لكنه سيدفع مالاً زائداً لشراء منتجكم .. وشراء أدوية ومقويات لا يحتاجها .. لكن لتستفيدوا من ماله .. صحيح ؟؟ قال : نعم ..

من هنا أستطيع أن أقول للإخوة الأطباء بكل صراحة ..

إن ما تفعله بعض شركات الأدوية من الجرائم يجب أن لا يستجيب له الأطباء .. بل يجب أن يقاوموه ..

بعض الشركات يعطوا الطبيب مدحاً للدواء .. وأوصافاً عجيبة للعلاج .. والطبيب الذكي لا يروج عليه دعايات كاذبة .. فمن أمانة الطبيب أن يصف للمريض الدواء الصحيح ولو كان من شركة غير التي كونت معه علاقة .. أو عملت له دعاية .. أو أعطوه أشياء .. أو وعدوه بدعوة للخارج وإقامة في فنادق وتذاكر طيران .. وهدايا قيمة .. وساعات وحقائب ثمينة ..

فقد يكون هناك دواء من شركة أخرى تركيبه وتأثيره واحد .. وهو أرخص .. فلماذا تعطي المريض الدواء الأغلى..؟

هذه خيانة للأمانة .. لم تنصحه لله .. لماذا تجعله يصرف أكثر والتركيبة واحدة ؟!

3/ وهنا جانب آخر من الأمانة .. لا يقل أهمية عن سابقه :

وهو ستر العورات ..

وقد رأينا جموعاً من الأطباء والطبيبات على حرص كبير على ذلك .. في العناية بستر المريض عند العلاج .. وأثناء العملية وبعدها .. ومعاملته كالنفس أو أشد ..

بل رأينا من الأطباء من يقوم بالمرور اليومي على المرضى فإذا رأى مريضاً نائماً مكشوف العورة .. سارع إليه وغطاه بلحافه وستره .. وإذا رأى مريضاً غائب الوعي وقد تحرك وانكشف شيء من عورته .. سارع الطبيب إلى سترها ..

ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ..

والإهمال الذي يقع في بعض المستشفيات .. هو نادر قليل .. ولكن لا بد من التنبيه عليه حتى يناصح الأطباء والممرضون بعضهم بعضاً ..
قال الدكتور حارث :

في بداية عملي في الطب .. كنت أتولى إجراء بعض العمليات الخفيفة ..

وفي غرفة العمليات يمر المريض بعد التخدير بمرحلة التجهيز والإعداد ..

ولم أكن أدخل غرفة العمليات إلا بعد تجهيز المريض غالباً حينما يكون مستوراً إلا موضع الجراحة ..

ودخلت مرةً أثناء مرحلة التجهيز فرأيت شاباً قد تم تخديره ، وهو مستلقٍ على طاولة غرفة العمليات ، و هو عار تماماً ليس عليه شيء يستره !! وذلك أن الممرضات الخاصات بنزع الملابس قد نزعن ملابسه بينما الممرضات الخاصات بلباس العمليات لم يسترنه بعد .. وكان يوجد طبيب يتفحص أجهزة العملية وقد أهمل الأمر وكأنه لا يعنيه ..

ثم بدأ الأمر يزداد سوءاً في عملية المنظار وقسطرة البول .. ومن العسير أن أصف التفاصيل تأدباً مع القارئين .. بقيت ضائق الصدر أياماً ..
وقالت الدكتورة سارة :

" .. أما في غرفة العمليات فحدث ولا حرج .. فالمرأة توضع على طاولة العملية عاريةً تماماً .. إي والله .. و يكون في غرفة العمليات :

أخصائي التخدير ، وطلاب ، وأطباء ..

وعندما أقول : غطوها .. يقول الاستشاري رئيس الفريق الطبي : نحن جميعاً أطباء ..!!

فأقول في نفسي : طيب !! وإذا كنا أطباء نهتك عورات الناس؟!!

وأنا متأكدة أنها لو كانت زوجته لما سمح لأحد بأن يراها " ..

وحتى لا يساء فهم مرادي لا بد أن أقول :

هاتان الحادثتان اللتان أوردتهما أحسب أنهما نادرتان وإنما ذكرتهما لتنبيه من كان غافلاً عنها من إخواننا الأطباء والممرضين ..

4/ التواضع لله ولين الجانب ..

5/ معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالعلاج والمرضى قدر المستطاع ..

ينبغي على الطبيب أن يتوفر له الحد الأدنى من الدراية بعلوم الفقه وأحكام العبادات ، لأن الناس سوف يستفتونه في أمورهم الصحية ذات الصلة بالعبادات .. وبالذات تعليم المرضى كيفية الطهارة والصلاة ..

وبعض المرضى قد لا يصلون .. لا بغضاً للصلاة .. وإنما جهلاً بكيفية طهارة وصلاة المريض .. ولما نصحنا بعض المرضى كان يقول : كيف أصلي وثيابي فيها نجاسة !! كيف أصلي وسريري إلى غير القبلة !! فمن المسئول عن هؤلاء ؟!

فالطبيب الموفق يتعلم ويعلم أحكام النجايات وحكم لمس العورة وما يترتب عليه من نقض وضوء أو غيره .. والجمع بين الصلاتين عند الحاجة، متى يجمع ومتى لا يجمع

وأحكام القبلة ، الصلاة ، الطهارة ، التيمم .. ويوقظ المريض لصلاة الفجر.. 

واليوم صار الأمر أسهل إذ توفرت كتب متخصصة في جمع الفتاوى الطبية والأحكام الشرعية المتعلقة بالمرض .. يمكن للطبيب والمريض الاستفادة منها بسهولة ..

6/ شهادة الزور !!

تعمد بعض الجهات الحكومية إلى طلب تقارير طبية من موظفيها لإثبات أو نفي أمر مرضي ليبنى عليه إجازة أو تقاعد أو صرف مكافأة .. أو غير ذلك ..

فينبغي للطبيب إن أدلى بشهادة أو كتب تقريراً طبياً أن يكون مطابقاً للحقيقة ، وأن لا تدفعه نوازع القربى أو الصداقة والمودة أن يدلي بشهادة تخالف الواقع ، فتكون شهادة زور وقد قال e : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ... ثم صمت ملياً وقال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور .. ألا وقول الزور .. فما زال يكررها حتى حسبوه لا يسكت " رواه الشيخان .

ولا تكتب بكفك غيـر شيء *** يسرك في القيامة أن تـــراه

7/ عدم انتقاد الأطباء الآخرين أمام المرضى :
يتعب الطبيب – والممرض أحياناً – حتى يصل إلى درجة متميزة من إتقان العمل والإبداع فيه .. ومع ذلك فلا ينبغي له أن يكثر الحديث عن نفسه فيذكر محاسن عمله ودقة إنجازاته وأعماله ، وبالمقابل ينتقص من زملاء مهنته حتى يجتذب المرضى الذين يعالجون لدى زميله ، وقد يستثقل المرضى المعالج الذي يصرف وقته في ذكر منجزاته ، خاصة إذا كان عمله الحقيقي لا يدلل عليه ، والمرض نوعان مرض القلب وهو مرض معنوي والثاني مرض الجسم وهو مرض حسي ، وما أجمل أن يتقن الطبيب علاج النوعين من المرض ..

 

على فراش الموت
ماذا يفعل الطبيب لو حضر محتضراً ؟

إذا ظهرت علامات الموت على المريض وغلب على الظن أنه قد حضر أجله فالسنة أن تلقنه شهادة أن لا إله إلا الله، لأنه e قال : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) رواه مسلم ، والتلقين يكون برفق ، فلا تقل : يا فلان قل لا إله إلا الله فإن أجلك قد حضر !!

لا.. ولكن يمكن أن تذكر الله عنده وتتشهد ، فإذا سمع ذلك منك تذكر وتشهد ..

نعم إن كان كافراً فلا بأس أن تقول له – صريحاً - : قل لا إله إلا الله .. لأنه e  قال لعمه أبي طالب حين حضرته الوفاة (( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )) ، وقال للغلام اليهودي الذي عاده وهو على فراش الموت : يا غلام قل لا إله إلا الله .. وكررها عليه حتى قالها .. ثم مات .. فقال e : (( الحمد لله الذي أنقذه من النار )) .رواه أحمد ..

وينبغي على من حضر محتضراً أن يحسن ظنه بربه .. ويطمئن نفسه فقد يكون ذهنه مشغولاً على أولاده أو بديون وفقر .. فلا بد أن تذكره بأن الله هو الرزاق وأن من خلق الخلق لن يضيعهم سبحانه ..

حتى يموت مرتاحاً مطمئناً ..

 

 

الطبيب والدعوة

كنت أقرأ بحثاً حول التنصير ..

كان بحثاً مرتباً حول أساليب التنصير واستغلال المواقف والحاجات ..

فكان من العبارات الهامة قول إحدى منظمات الأطباء التنصيرية : ( حيث تجد بشراً تجد آلاماً ، وحيث تكون الآلام تكون الحاجة إلى الطبيب ، وحيث تكون الحاجة إلى الطبيب فهنالك فرصة مناسبة للتبشير ) ..

جعلت بعد هذه العبارة أبحث عن جهودهم في التنصير من خلال التطبيب .. فذهلت بجهود وقدرات ..

ومن ذلك أن منظّمة تنصيرية تدعى ( عملية البركة الدولية) وهي تابعة لمنظمة " شبكة الإذاعة المسيحية" والتي يرأسها منصّر أمريكي يدعى " بات روبرتسون" مرشّح الانتخابات الأمريكية عام 1987 ، قامت تلك المنظمة بتجهيز طائرة لوكهيد ( L-50-1011) وتحويلها إلى مستشفى طائر ضخم بكلفة خمسة وعشرين مليون دولار، مزوّد بجميع المعدّات اللازمة للعمليات الجراحية والعلاجية ، بحيث يجوب مناطق كثيرة في العالم ويمكث في مناطق محدّدة ومختارة لمدد تتراوح ما بين أسبوع إلى عشرة أيام ، ويقدّم خدماته بالمجّان ، ولكن كانت حقيقة هذا العمل المجّاني هي تنصير النّاس !

فقبل بدء الكشف والعلاج يُسْأل عن ديانته ، ثم يستمع لمحاضرة لمدة عشر دقائق حول المسيح عليه السلام ، وعن دين النّصارى ، وضرورة البحث عن الخلاص في رحاب المسيح ، ثم يعطى كمية من الكتب والنشرات ويُطلَب منه دراستها والحضور إلى عنوان معيّن بعد أيّام !!

يا عجبي .. مستشفى طبّي طائر للتنصير..، ألا تقدر أمة المليار على مثله..؟!!
رحم الله الإمام الشافعي لما قال عن المسلمين والطب : ( ضيعوا ثلث العلم ، و وَكلوه إلى اليهود والنّصارى ) .

ومما يزيدنا يقيناً بأهميّة الدعوة في المجال الطّبي وأن المستشفى أرض خصبة للدعوة :

أن الطبيب ذو علاقة جذرية بحياة الآخرين ، فمن من الناس لا يمرض ولا يعتل ؟ كل الناس كذلك – غالباً - لذا ترى الناس يهرعون إلى طلب الاستطباب طمعاً في الشفاء ، ويبذلون لذلك الغالي والنفيس ، ويشعرون بالحاجة إلى الطبيب ويحرصون على التلطف معه .. وإقامة علاقة حسنة .. وكسب رضاه ..

إذن أفلا يجدر بالطبيب أن يغتنم ذلك في بذل نصيحة لامرأة في حجابها .. أو عاق والديه .. أو تارك صلاة .. أو واقع في فاحشة ..

وأهم من ذلك نصح المريض .. وبالذات في قضايا العقيدة من رقى وتمائم وأحجبة وغيرها ، والمريض يكون عادة في حالة من الضعف يتقبل فيها ما يشير عليه الطبيب ..

فلعل كلمة واحدة منك تنقل شخصاً من الظلمات إلى النور ..

ومن طرق الدعوة التي يمكن أن يتعاون فيها الطبيب ..

• توزيع الأشرطة والمطويات النافعة ، وتعليق المجلات الحائطية ، وتكون مواضيعها متنوعة حول أحكام طهارة المريض وصلاته ، والدعاء والصبر ، إلى غير ذلك ..
• عمل مكتبة إسلامية مصغرة مقروءة ومسموعة ومرئية باللغتين العربية والإنجليزية ، لنفع المسلمين ، ودعوة غير المسلمين .
• إيجاد مكتبة صوتية إسلامية تجارية - على هيئة كشك أو محل - في صالة الاستقبال ونحو ذلك ،تؤجر على إحدى التسجيلات الإسلامية ، وفي هذه الفكرة خير عظيم .
• تنسيق كلمات توجيهية في المساجد والمصليات التابعة للمستشفى ..
• إقامة ندوات علمية طبية تبين إعجاز الله في خلق الإنسان .

 

الطبيب ومفاتيح الخير

جلست أفكر كثيراً في حال الطبيب مع مرضاه .. وقارنت الطب ببقية الوظائف ..

فوجدت أن المدرس في الغالب يتعامل مع نوعية محددة من الناس .. متقاربين في توجهاتهم وأفكارهم ومستوى قدراتهم وكيفية تعاملهم .. وبالتالي لن يتعب كثيراً في التعامل معهم ..

ووجدت أيضاً أن المهندس يتعامل أيضاً مع مستويات متقاربة .. فلن يتعب ذهنياً كثيراً ..

وقل مثل ذلك في الطيار فهو على مقود طيارته لا علاقة له بالركاب .. ومثله القبطان .. والبنّاء .. والحداد .. والنجار ..

أما الطبيب فيجلس في عيادته ويدخل عليه المرضى ..

منهم الذكي اللماح الذي يفهم مراد الطبيب ويفهم منه الطبيب ..

ومنهم الغبي عديم الفهم .. الذي سيتعب مع الطبيب .. ويتعب الطبيب .. يا دكتور ما فهمت .. لا أنت لم تفهم قصدي .. اشرح لي أكثر .. الخ ..

ومنهم سيء الظن الذي يشغل الطبيب بقوله : إيش قصدك يا دكتور .. اتق الله لا تخسرني أموال في الأدوية .. ليش كل هالتحاليل ؟ إنت قاعد تسرقنا !!

ومنهم حسن الظن ..

ومنهم الغضوب الذي ربما أزعج الطبيب بقوله : يا دكتور أنت ما تفهم .. كم مرة تعطيني علاج ولا أشفى .. إذا ما تعرف تعالج لا تفتح عيادة .. الغلطان الذي يأتي لمثلك ..

ومنهم الحليم .. ومنهم الكريم .. ومنهم البخيل ..

ومنهم العربي والأعجمي .. والكبير والصغير .. والغني والفقير ..

ولا تحسب الناس نوعاً واحداً فلهم    طبائع لست تحصيهن ألوان

فلا بد للطبيب أن يكيف نفسه في التعامل مع كل موقف بما يصلح له ..

بالصبر على المرضى عند علاجهم ، وبالذات على كبار السن توقيراً لهم ..

وعلى الأطفال رحمة بهم ..

وعلى الملهوفين في الحالات الطارئة شفقة عليهم ..

والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير وأحب إلى الله من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .. كما أخبر e ..
ومن مفاتيح الخير :

1/ التلطف مع المريض بسؤاله عن أحواله في البيت وأولاده ..
2/ إعداد بعض الأشرطة أو الكتيبات وإهداؤها إلى المرضى ..

3/ الرفق بأهل المريض وتحمل كثرة أسئلتهم والتأثير عليهم من خلال مناصحتهم .

4/ احتساب الأجر أثناء المرور اليومي على المرضى .. فالمسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ..

5/ التبسم في وجه المريض فتبسمك في وجه أخيك صدقة ..

6/ دلالة المريض على ما يسأل عنه من حاجة أو مكان فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " ..

7/ احتسابك الأجر عند المبيت في غرفة المناوبة وحدك وتركك الأهل والدار ، ولعله يشملك قوله r : "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" رواه البخاري

8/ الحذر من التسرع في تشخيص الداء والتريث في وصف الدواء ومن تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" .

9/ الحرص على ستر عورات المسلمين ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" .رواه مسلم

10/ الحذر من كثرة الكلام ( والسواليف ) مع المريض إذا كان في خارج العيادة مرضى ينتظرون ، فمنهم من ترك عمله ومشاغله وأطفاله ..

 

صلاة المريض

قبل فترة اتفقت مع مجموعة من الزملاء على تكوين لجنة خيرية لزيارة المرضى ومواساتهم ومساعدتهم عند الحاجة ..

ولما كان عددنا قليلاً رتبنا المستشفيات نزورها واحداً تلو الآخر ، أول مستشفى زرناه كان يحتوي على أكثر من 500 سرير .. مررنا على المرضى .. أهديناهم هدايا .. صبرناهم .. أجبنا على أسئلتهم .. تفاجأنا بأن أكثر من 40% من هؤلاء المرضى لا يصلون !! ولهم أعذار متنوعة .. فمنهم من ينوي جمع الصلوات إلى وقت خروجه .. ومنهم من يقول : كيف أصلي وأنا إلى غير القبلة !! أو كيف أصلي وأنا لا أستطيع الوضوء !! أو ثيابي ملطخة بالنجاسة !! إلى غير ذلك ..

مع أن الله تعالى قد سهل الأمر عليهم .. والشريعة رفعت الحرج .. وجعل الله مع العسر يسراً .. فلنعلم جميعاً أن الصلاة لا تسقط عن المسلم أبداً إلا في حالة فقدان العقل بجنون أو إغماء طويل ( غيبوبة ) ..

وهنا بيان موجز لكيفية طهارة المريض وصلاته :

للمريض في الطهارة عدة حالات :

1. إن كان مرضه يسيراً لا يضره معه استعمال الماء كالمريض بالصداع ووجع الضرس ونحوهما، فهذا لا يجوز له التيمم .

2. وإن كان به مرضه يزداد باستعمال الماء ، فهذا يجوز له التيمم .

3. المريض إذا لم يستطع الوضوء أو الغسل بالماء لعجزه أو لخوفه من زيادة المرض فإنه يتيمم بتراب نظيف ، لقوله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6] ، فإن كان لا يستطيع التيمم يَـمّمَهُ غيره ، بأن يأخذ يدي المريض فيضرب بها على التراب ثم يمسح وجهه وكفيه ، وإن كان بدنه أو ملابسه أو فراشه متلوثاً بالنجاسة ، ولم يستطيع إزالة النجاسة ، أو التطهر منها - جاز له الصلاة على حالته التي هو عليها؛ لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [التغابن:16].

4. من به جروح أو قروح أو كسر أو مرض يضره استعمال الماء ، فأصابته جنابة ، جاز له التيمم للأدلة السابقة ، وإن أمكنه غسل الصحيح من جسده وجب عليه ذلك وتيمم للباقي .

5. إذا كان المريض في محل لم يجد ماء ولا ترابا ولا من يحضر له الماء أو التراب ، فإنه ينوي الطهارة بقلبه ، ويصلي على حسب حاله وليس له تأجيل الصلاة ، لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [التغابن:16] .

6. المريض المصاب بسلس البول ، أو استمرار خروج الدم أو الريح ولم يبرأ بمعالجته ، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ويغسل ما يصيب بدنه وثوبه ، أو يجعل للصلاة ثوبا طاهراً إن تيسر له ذلك . وإن تيسر أن يضع على فرجه قطناً أو نحوه مما يمنع وصول النجاسة إلى ملابسه وبقية بدنه ، فهو أفضل .

7. وإن كان المريض عليه جبيرة فيمسح عليها في الوضوء والغسل، ويغسل بقية العضو، أما إن كان المسح على الجبيرة أو غسل ما يليها من العضو يضره ، أو كان فيه جروح لا يستطيع غسلها ولا مسحها ( كالحروق ) اكتفى بالتيمم بعد انتهائه من الوضوء .

كيفية صلاة المريض ..

أجمع أهل العلم على أن من لا يستطيع القيام ، له أن يصلي جالسا، ويكون جلوسه حسب ما يسهل عليه فكيفما جلس جاز .

فإن عجز عن الصلاة جالسا فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن ، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره , وتكون رجلاه جهة القبلة إن أمكن ؛ لقوله r  لعمران بن حصين : ( صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ) "رواه البخاري" وزاد النسائي: " فإن لم تستطع فمستلقيا " .

ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائما فيومئ بالركوع ( يعني : يميل بجسمه خافضاً رأسه ) ثم يرفع من الركوع ، فإذا أراد السجود جلس ، وأومأ بالسجود؛ لقوله تعالى : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) [البقرة:238]، ولقوله r  : صل قائماً .

وإن كان المرض شديداً ، أو شللاً ، ولم يقدر على الإيماء برأسه ، نوى الركوع والسجود بقلبه ، وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة , ولم يستطع التوجه إليها بنفسه ; صلى على حسب حاله , إلى أي جهة تسهل عليه .

وبعض المرضى ممن تجرى لهم عمليات جراحية , يتركون الصلاة لأنهم لا يقدرون على أدائها بصفة كاملة , أو لعجزهم عن الوضوء , أو لأن ملابسهم نجسة , وهذا خطأ كبير ; فلا يجوز ترك الصلاة . بل يصليها على حسب حاله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .

وبعض المرضى يقول : إذا شفيت ; قضيت الصلوات التي تركتها , وهذا تساهل ; فالصلاة تصلى في وقتها حسب الإمكان , ولا يجوز تأخيرها عن وقتها .

وإذا نام المريض أو غيره عن صلاة أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه من النوم ، أو حال ذكره لها ، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه. لقوله r  : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) .

وإن شق عليه فعل الصلاة بوقتها فيجمع الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير حسبما يتيسر له ، إن شاء قدم العصر مع الظهر وإن شاء أخر الظهر مع العصر، وإن شاء قدم العشاء مع المغرب، وإن شاء أخر المغرب مع العشاء ، أما الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها .

 

أحكام صيام المريض

- كل مريض يشق عليه الصوم ، يجوز له الفطر ، لقول تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ). أما المرض اليسير كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه .

- وإذا كان الصيام يزيد المرض أو يؤخر الشفاء ، ويحتاج نهاراً لأكل الدواء ، فيجوز له أن يُفطر ، ويُكره له الصيام لقوله تعالى :" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة: الآية185) .

- إن كان الصوم يسبب له الإغماء ، أفطر وقضى ، وإذا أصبح صائماً فأغمي عليه أثناء النهار وأفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام لم يأكل ولم يشرب ، ومن أغمي عليه ، أو وضعوا له مخدرا لمصلحته ، فغاب عن الوعي ، فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ ، فيقضي - قياساً على النائم - وإن كان أكثر فلا يقضي قياساً على من غاب عقله بجنون ( بن باز ) .

- المريض الذي يُرجى بُرؤه وينتظر الشفاء ( كمن أجريت له عملية جراحية ) إذا شق عليه الصوم أفطر وقضى .

- والمريض مرضاً مزمناً لا يُرجى برؤه ( كمرض السرطان ، والفشل الكلوي مثلاً ) وكذلك الكبير العاجز عن الصيام والقضاء ، يُطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من قوت البلد ( كيلو ونصف من الرز  ) .

- والمريض الذي أفطر بعض رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ، ثم علم أن مرضه مزمن ، وأنه لن يستطيع القضاء أبداً ، فالواجب عليه إطعام مسكين واحد عن كل يوم أفطره .

- ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه ، فمات قبل أن يوجد وقت للقضاء ، فليس عليه ولا على أوليائه شيء ( مثال : شخص عمل عملية جراحية في 25رمضان ، فأفطر بنية القضاء بعد الشفاء ، فتوفي في 30رمضان ، فهذا لا يلزم أهله عنه قضاء ولا إطعام ) .

- ومن مرض فأفطر ، ثمّ شفي وتمكن من القضاء ، فتكاسل حتى مات ، أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم ، وإن تبرع أحد أقاربه بالصوم عنه فهو أولى لقوله r  : " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه "( مثال : عمل عملية في 25رمضان ، فأفطر بنية القضاء ، فشفي في 30رمضان ، وتكاسل عن القضاء حتى مات في شهر الحج ، فهذا يلزم أهله عنه قضاء أو إطعام ) .

- ومن كان مرضه يُعتبر مزمناً ، فأفطر وأطعم ( لعجزه عن القضاء ) ، ثم تطور الطبّ فاكتُشِف علاج لمرضه ، فاستعمله وشفي ، فلا يلزمه شيء عما مضى ، لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه ( اللجنة الدائمة ) .

- ومن أصابه جوع أو عطش شديد ، فخاف على نفسه الهلاك ، أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب ، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما .

- الإطعام له صورتان : فيجوز أن يجعله آخر الشهر ، فيطعم 30 مسكيناً في آخر الشهر ، ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم .

 

 

كلمات إلى المرافق

تغلب الشفقة بعض الناس عندما يقعد المرض قريبه أو حبيبه .. فلا يزال مرافقاً معه في المستشفى يقوم على خدمته ومواساته .. وتسليته ومؤانسته ..

وقد يسهر المرافق والمريض نائم ..

وقد يصحو المرافق والمريض مغمى عليه بتخدير أو نحوه ..

وسهر المؤمن على أخيه المريض من أعظم القربات .. فكيف إذا كان هذا المريض ذا رحم .. كوالد وأخ وزوج .. لا شك أن الأجر يكون أعظم ..

وإذا كان نبينا e أخبر أن من زار مريضاً فلا يزال في خرفة الجنة كأنه يجني من ثمارها .. ويستغفر له سبعون ألف ملك .. إذا كان هذا في الزائر .. فما بالك بمن يلازم المريض خدمة ومؤانسة ..

إلا أن بعض المرافقين يجمع هذه الحسنات ثم يفرقها بأخطاء يقع فيها ..

لأن المرافق يتفرغ غالباً من أمور تعود أن ينشغل بها وقته في بيته أو عمله أو تجارته ..

إذن ينبغي لنا جميعاً أن نتساءل ..

 

كيف يقضي المرافق وقته ؟

يتنوع بقاء المرافق مع المريض بتنوع مكان وجود المريض ..

ففي المستشفى ..

1/الرقية على المريض .. قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) .. ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) ..

وللقراءة على المريض تأثير عظيم ..

 

في المستشفى العسكري

قال صاحبي :

عبد الله كان شاباً صالحاً .. وكان لي به علاقة ومعرفة .. وقد علمتُ أن أباه مصاب بمرض في القلب وأجريت له عدة عمليات .. وأدخل أخيراً إلى المستشفى وظلَّ فيه للعناية المركّزة .. زُرتُه في المستشفى مراراً .. ثم اشتدّ به المرض فدخل في غيبوبة تامة لا يعقل مما حوله شيئاً .. ولما رأى صاحبي أن أباه لا يعقل شيئاً وأن تكرار مجيء الزائرين أصبح مزعجاً علّق لافتة على باب الغرفة كتب عليها " الزيارة ممنوعة بأمر الطبيب " .. وبعد أيام .. اتصل بي وهو مضطرب وقال :

يا شيخ .. أريدك أن تزور والدي .. ولعلّك أن تقرأ عليه شيئاً من القرآن ..

ذهبت سريعاً إلى المستشفى .. ودخلتُ على أبيه .. فإذا هو كالجثة الهامدة على السرير .. في إغماء تامّ .. قد وُصّل بجسمه عددٌ من الأجهزة .. جهاز لقياس الضغط .. وآخر للسكر .. وثالث لضربات القلب .. ورابع للتنفس .. وخامس .. وبجانب السرير ممرض يراقب هذه الأجهزة وينظر إلينا بهدوء ..

اقتربتُ منه ووقفتُ عند رأسه وكلمته فلم يردَّ عليَّ شيئاً .. قلت : يا أبا فلان إن كنت تسمعني فحرّك أصبعك .. بقي ساكناً لم يتحرّك فيه شيء ..

بدأت أقرأ القرآن بصوت مسموع .. ] الحمد لله ربّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * .. [ .. ] الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم .. [ ..

بدأ الشيخ ينتفض قليلاً .. لكنه لم يتكلم ..

وفجأة أطلق أحد الأجهزة المحيطة بنا صوتاً كصفارة الإنذار .. ففزع الممرض وقام إليه وغيّر في بعض أرقامه .. وجلس ..

ثم صفّر جهاز آخر فقام وغير فيه .. وجلس ..

ثم صفر الجهاز الثالث .. فلم يزل يتنقل بين هذه الأجهزة .. وأنا أقرأ ..

وسمعتُ صاحبي يقول له : This Qoran  .. This Qoran.. وهو ينظر إلينا باستغراب ودهشة ..

أما أنا فاستمريت في التلاوة .. دون أن ألتفت إليهما ..

استمرت التلاوة قرابة النصف ساعة .. ثم دعوتُ له .. وانصرفتُ ..

أما عبد الله فبقي مع الممرض يخاطبه باللغة الإنجليزية .. وكنت أسمعه يردد كلمات : القرآن .. الإسلام ..

أقبل إليّ عبد الله يشكر ويودع .. فأمسكت يده وقلت :

هل تعلم أني لم أفهم شيئاً مما جرى ! ما هذه الأجهزة التي أزعجتنا ؟! ولماذا اضطرب الممرض ؟! ولماذا وقفت معه تكلمه عن القرآن ؟! ولماذا ..

فقال : الأمر عجيب يا شيخ .. أنت تعرف أن والدي مصاب بمرض في القلب .. وأجريت له عدة عمليات .. وفي العملية الأخيرة قبل يومين توقف الدم فجأة في شرايين جسمه .. ولم يكن الطبيب يتوقع ذلك فلم يحرص قبل العملية على توصيل مضخة كهربائية لتحريك الدم في العروق عند الحاجة .. فتفاجأ الطبيب بذلك قام سريعاً بتوصيل مضخة يدوية وكلّف إحد الممرضين بتحريكها بيدها .. فكان هذا التصرف من الطبيب غير مجدٍ كثيراً .. لأن الدم توقف في العروق لمدة خمسين دقيقة أشرف والدي معها على الهلاك .. لكن الله تعالى أحسن وتلطف ..

وبعد نهاية العملية .. جملوا أبي كالجثة الهامدة إلى غرفته .. فانخفض ضغط الدم حتى وصل إلى الأربعين .. فحاولوا أن يرفعوه بشتى الوسائل فلم يقدروا .. فأمر الطبيب بأن يُحقن والدي في الوريد بمادة كيميائية ترفع ضغط الدم .. وهذه المادة خطرة جداً .. لذا لا يسمح طبياً بأن يُحقن المريض بما يزيد عن مقياس اثني عشر درجة لأنه يموت في الغالب .. فتم حقنه بهذا المقياس فلم تتحسن حالته .. فزادوه إلى ثلاث عشرة درجة .. ثم أربع عشرة .. ثم خمس عشرة .. ثم ست عشرة .. فارتفع ضغطه إلى سبع وستين فتوقفوا .. مع أنه لا يزال منخفضاً جداً ..

ثم ألقوه على هذا السرير ووضعوا هذه الممرضة تراقب حاله ..

وبعدما بدأت – يا شيخ - بتلاوة القرآن بدأ ضغط الدم عند أبي يرتفع .. ويرتفع .. ثمان وستين .. تسع وستين .. سبعين .. فاضطربت الأجهزة .. وقامت الممرضة تخفّض من المادة التي وضعوها لرفع الضغط .. واستمرّ الضغط في الارتفاع خمس وسبعين .. ثمانين .. تسعين .. حتى ثبت الضغط على مائة وواحد وعشرين ..

فهل عرفت سبب تعجب الممرضة .!!. الأطباء .. الاستشاريون .. الأجهزة .. الأدوية .. لم تنفع شيئاً .. أين طبّهم ؟!.. أين تجاربهم ؟! .. أين أدويتهم .. فسبحان من أنزل القرآن .. ] وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [  ..

فيمكن للمرافق أن يرقي المريض بـ :

قراءة الفاتحة سبع مرات مع النفث على الجزء المصاب أو على الرأس ..

وفي حديث أبي سعيد الخدري أن ناساً من أصحاب رسول الله e كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم  يضيفوهم ..

فجلس الصحابة في جانب الطريق ..

فلُدغ سيد الحي .. فأقبل رجل منهم على الصحابة وقال : هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ ، أو مصاب ، فقال رجل منهم : نعم ، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب ، فبرأ الرجل ، فأُعطي قطيعاً من غنم ، فأبى أن يقبلها وقال : حتى أذكر ذلك للنبي e ..

فأتى النبي e فذكر ذلك له ، فقال : يا رسول الله ، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب ، فتبسم e وقال : وما أدراك أنها رقية ؟! ثم قال : ( خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم ) .. متفق عليه ..

قراءة ( قل هو الله أحد ) والمعوذتين .. سبع مرات ..

قول 7 مرات : أسأل الله العظيم ، رب العرش العظيم أن يشفيك .

بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك ، من شر كل نفس ، وعين حاسدة بسم الله أرقيك ، والله يشفيك .. رواه احمد ..

أذهب الباس ، رب الناس ، اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يُغادر سقما .متفق عليه

أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة .

اذهب الباس ، اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً

اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً ، أو يمشي لك إلى صلاة

( من عاد مريضاً لم يحضره أجله ، فقال عنده سبع مرات: اسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك. إلا عافاه الله من ذلك المرض ) .. رواه الترمذي وغيره – صحيح ) ..

إلى غير ذلك من الأذكار والأدعية الشرعية ..

ومما يمكن للمرافق أن يغتنم في وقته :

2/ القراءة النافعة ، سواء في تلاوة القرآن ، أو الكتب النافعة .

3/ الحذر من الغزل والمعاكسة .. نعم سواء كان المرافق رجلاً أو امرأة ..

فمع اتساع وقت الفراغ .. يلعب الشيطان لعبته .. فيغري الفتاة بالتسكع في ممرات المستشفى .. أو العبث بالهاتف ..

ويغري الرجل كذلك بذلك ..

وكم سمعنا عن منكرات وقعت في مستشفيات .. أو كان منطلقها المستشفيات .. بسبب المرافقين .. وتساهل بعض الفتيات المرافقات بحجابهن وضحكاتهن ..

والشيطان ما مات ..

4/ ولا أنسى أن أقول للمرافق :

كن بطلاً

نعم كن بطلاً لا رجوفاً جزوعاً .. قد لا نلوم المريض لو سمعنا منه أنيناً أو آهات ..

فلكل إنسان حد ينتهي إليه صبره ..

لكنك تعجب كثيراً عندما ترى مرافقاً لمريض ..لا يكف عن البكاء والجزع ..

مع أن المنتظر منه أن يصبّر المريض على المرض .. ويكون قدوة له في الصبر والرضا ..

ولكن صار حال المريض معه

كالمستجير من الرمضاء بالنار

قد يشتكي بعض المرافقين بأنهم يغلبون على البكاء والحزن ..

فأقول نعم لكن الصبر والمجاهدة أجمل بك ..

وماذا تفيد كثرة التشكي والعويل ؟ حتى لو أفضى المرض بحبيبك إلى الموت .. فاصبر صبراً جميلاً ..

قال r : إذا مات ولد العبد قال الله للملائكة : قبضتم ولدي عبدي ..؟ قبضتم ثمرة فؤاده ..؟ فتقول الملائكة : نعم ..

فيقول : فماذا قال عبدي ..؟

فتقول الملائكة : حمدك واسترجع ..

فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد .. ( رواه الترمذي-صحيح ) ..

فإذا عظم ضرك .. وضاق صدرك .. فاجعل الدعاء والشكوى إلى الله تعالى ملاذك ..

 

قال د. عبد الله :

جاءت إليّ تجر خطاها ..

تحمل على ذراعيها طفلاً قد أنهكه المرض ..

أم قارب عمرها الأربعين .. قد ضمت الصغير إلى صدرها .. كأنه قطعة من جسدها ..

كانت حالته حرجة .. تسمع تردد النفس في صدره من على بعد مترين وثلاثة ..

سألتها : كم عمره ؟

قالت : سنتان ونصف .

عملنا له الفحوصات اللازمة .. كان يعلني من مشاكل في شرايين القلب ..

أجرينا له العملية .. وبعد يومين من العمليه كان ابنها في صحة جيده ..

ابتهجت الأم وفرحت .. وصارت كلما رأتني سألتني: متى الخروج يا دكتور ..

فلما كدت أن أكتب أمر الخروج .. فإذا بالصغير يصاب بنزيف حاد في الحنجره .. أدى إلى توقف قلبه 45 دقيقة.

غاب الصغير عن وعيه ..

اجتمع الأطباء في غرفته .. ومضت الساعات ولم يستطيعوا إفاقته ..

تسرع أحد الزملاء وقال لها : احتمال أن يكون ابنك مات دماغياً .. وأظن أنه ليس له أمل في الحياه.

التفتُّ إليه لائماً لم قال ذلك ..!!

ونظرت إليها فوالله ما زادت على أن قالت : الشافي الله .. المعافي الله ..

ثم تمتمت قائلة : أسأل الله إن كان له خياًر في الشفاء أن يشفيه ..

ثم سكتت .. ومضت إلى كرسي صغير .. جلست عليه ..

وأخذت مصحفها الأزرق الصغير وجلست تقرأ فيه .. خرج الأطباء .. وخرجت معهم .. صرت أمر على الصغير .. حالته لم تتغير .. جثة على السرير الأبيض ..

ألتفت إلى أمه .. حالها أيضاً لم يتغير ..

يوماً أراها تقرأ عليه .. ويوماً تتلو القرآن .. ويوماً تدعو له ..

بعد أيام أخبرتني إحدى الممرضات أن الصغير بدأ يتحرك .. حمدت الله ..

وقلت لها مباركاً : يا أم ياسر .. أبشرك ياسر بدأ يتحسن .. قالت كلمة واحدة وهي تدافع عبرتها : الحمد لله .. الحمد لله ..

مضت أربع وعشرين ساعة ..

نفاجأ بالصغير .. يصاب بنزيف حاد مثل نزيفه الأول .. ويتوقف قلبه مرة أخرى ..

ويتعب جسده الصغير ..ويفقد الحركة والإحساس ..

دخل أحد الأطباء يعاين حالته .. فسمعته الأم يقول : وفاة دماغية ..

رددت : الحمد لله على كل حال .. الشافي ربي ..

بعد أيام شُفي الصغير ..

لكنه لم تمض عليه ساعات .. حتى أصيب بنزيف في القلب .. ثم يفقد الحركة والإحساس ..

ويفيق بعد أيام .. ثم يصاب بنزيف جديد ..حالة غريبة .. لم أر مثلها في حياتي ..

تكرر هذا النزيف ست مرات ..ولا تسمع منها إلا : الحمد لله الشافي ربي .. هو المعافي .. بعد فحوصات وعلاجات متعددة ..

سيطر أطباء القصبة الهوائية على النزيف بعد ستة أسابيع .. بدأ ياسر يتحرك ..

وفجأة .. إذا به يبتلى بخراّج كبير ( ورم ) .. والتهابٍ في الدماغ ..

عاينت حالته بنفسي .. قلت لها :

ابنك وضعه حرج جداً .. وحالته خطيره ..

رددت: الشافي هو الله ..

وانصرفت تقرأ عليه القرآن ..زال هذا الخُرّاج بعد أسبوعين..

مضى يومان تماثل الغلام أثناءها للشفاء .. حمدنا الله على ذلك ..

بدأت الأم تهيء نفسها للخروج ..وبعد ثلاثة أيام ..

إذا به يصاب بتوقف والتهاب حاد بالكلى ..

أدى إلى فشل كلوي حاد كاد أن يميته..

والأم مازالت متماسكة .. متوكله .. منطرحه على ربها .. وتردد :

الشافي هو الله .. ثم تذهب وتقرأ من مصحفها عليه..

مضت الأيام ونحن في محاولات وعلاجات متتابعة لا تتوقف .. استمرت أكثر من ثلاثة أشهر ..تحسنت كلاه ولله الحمد ..

لكن القصة لم تنته ..يصاب الصغير بمرض عجيب لم أره في حياتي ..

بعد أربعة أشهر يصاب بالتهاب في الغشاء البلوري المحيط بالقلب .. مما اضطرنا إلى فتح القفص الصدري .. وتركه مفتوحاً ليخرج الصديد ..

وأمه تنظر إليه وتردد :

أسأل الله أن يشفيه .. هو الشافي المعافى ..

ثم تنصرف عنه إلى كرسيها وتفتح مصحفها ..

كنت أنظر إليها أحياناً .. ومصحفها بين يديها ..

لا تلتفت إلى ما حولها ..

كنت أدخل غرفة الإنعاش ..

فأرى أنواع المرضى ومرافقيهم ..

أرى مرضى يصرخون .. وآخرين يتأوهون ..

ومرافقين يبكون .. وآخرين يجرون وراء الأطباء ..

وهي على كرسيها ومصحفها .. لا تلتف إلى صارخ .. ولا تقوم إلى طبيب .. ولا تتحدث مع أحد ..كنت أشعر أنها جبل .. بعد ستة أشهر في الإنعاش ..

كنت أمر بالصغير فأراه لا يرى .. لا يتكلم .. لا يتحرك .. صدره مفتوح ..

ظننا أن هذه نهايته وخاتمته.. والمرأة كما هي تقرأ القرآن .. صابره لم تشتك .. ولم تتضجر .. والله ما كلمتني بكلمة واحدة .. ولا سألتني عن حالة ولدها .. إلا إن ابتدأت أنا أحدثها عنه ..وكان زوجها قد جاوز عمره الأربعين ..

يقابلني أحياناً عند ولده .. فإذا التفت إليّ ليسألني .. غمزت الأم يده .. وهدّأته ورفعت من معنوياته .. وذكرته بأن الشافي الله .. بعد شهرين .. تحسنت حالته ..

حوّلناه لقسم الأطفال في المستشفى ..تحسن كثيراً ..

مارسوا معه أنواعاً من العلاجات والتدريبات ..

وبعدها ذهب الطفل إلى بيته ماشياً .. يرى .. ويتكلم كأنه لم يصبه شيء من قبل .

عفواً .. لم تنته القصة العجيب بعد ..بعد سنة ونصف .. كنت في عيادتي ..

فإذا بزوج المرأة يدخل عليّ ..

وتدخل زوجته وراءه تحمل بين يديها طفلاً صغيراً صحته جيدة ..

وكان للطفل مراجعة عادية عند أحد الزملاء لكنهم جاءوني للسلام عليّ ..

قلت للزوج : ما شاء الله .. هذا الرضيع رقمه ستة أو سبعه في العائلة ؟

فقال : هذا هو الثاني ..

والولد الأول هو الذي عالجته العام الماضي .. وهو أول مولود لنا .. جاءنا بعد 17 عاماً من الزواج والعلاج من العقم ..

خفضت رأسي .. وأنا أتذكر صورتها وهي عند الولد .. لم أسمع لها صوتاً .. ولم أر منها جزعاً ..

قلت في نفسي .. سبحااااان الله ..

بعد 17 سنة من الصبر وأنواع علاج العقم ترزق ترزق بولد تراه يموت أمامها مرات ومرات .. وهي لا تعرف إلا لا إله إلا الله .. الله الشافي .. المعافي ..

أي اتكال .. وأي امرأة هذه ..

5/ وما أجمل أن لا يكتفي المرافق بملأ وقته بالمفيد .. بل يحرص على ملء وقت المريض أيضاً بالمفيد ..

كأن يحرصه على كثرة الذكر والاستغفار ..

وأن يحضر له مسجلاً وأشرطة نافعة .. أشرطة تلاوة .. محاضرات .. أحاديث ..

أن يتابع معه أوقات الصلاة ويحرصه على أدائها ..

أن يبعد عنه ما يضره .. أو يحمله أوزاراً من نظر أو سماع محرم ..

الرضا بالقضاء والقدر ..

 

آداب زيارة المريض

ذكر في بعض كتب الأدب .. أن أحد الثقلاء دخل على مريض يعوده .. فما كاد يجلس حتى قال :

فلان .. وجهك أصفر .. قال المريض : الحمد لله على كل حال ..

قال : يبدو عليك الإرهاق .. قال : الله يعين ..

قال : المرض ظاهر عليك .. متى بدأت علتك ؟ قال : منذ أيام ..

قال : مم تشتكي ؟ قال : شكوى يسيرة وأسأل الله الشفاء ..

قال : ما هي ؟ قال : مرض معين ..

قال : ما هو ؟ أليس له اسم !! طيب .. هل أنت بخير ؟ فقال المريض : كنت بخير قبل أن تدخل عليّ ..

قال : حسناً أنا ذاهب .. هل لك حاجة ؟

قال : نعم .. حاجتي أنك إذا خرجت من عندي فلا ترجع إليّ أبداً .. حتى جنازتي أعفيك من الصلاة عليها ..

 هكذا لسان حال بعض المرضى مع فريق من الزائرين ..

فبعض الزوار ما إن يجلس عند المريض حتى يشغله بأسئلة لا تكاد تنتهي .. واقتراحات وملاحظات .. وكأنه طبيب زائر أو استشاري منتدب ..

ومن هنا لزم أن نتذكر جميعاً الآداب الشرعية الواردة فغي زيارة المريض ..

1- أن يلتزم بالآداب العامة للزيارة، كأن يدق الباب برفق ، ويخبر باسمه صريحاً ، وأن يغض بصره ..
2- أن تكون العيادة في وقت ملائم ..

3- أن يستصحب هدية للمريض يفرحه بها ويريحه .. وحبذا لو كان شيئاً يستفيد منه المريض .. ككتاب نافع أو شريط أو مجلة .. أو شيئاً من الحلوى .. أو غير ذلك ..

أما ما نراه من إحضار باقات الزهور .. والإسراف في ذلك .. فهذا تبذير .. ولا يستفيد منه المريض ..

بل ذكر بعض الباحثين في تواريخ الأمم أن إحضار الزهور إلى المريض كان من عادات الإغريق ( اليونان ) إذ يعتبرون الزهور رمزاً لإله الرحمة .. ولا يزال النصارى إلى اليوم متأثرين بهذا الاعتقاد ، ألا ترى أنهم يضعون على تابوت الميت وعلى قبره زهوراً !!

4- أن يكون العائد رفيقاً هيناً ليناً .. يسأل المريض عن حاله برفق .. ولا يدقق معه أو يكثر المسألة ..

5- أن يغض البصر .. إذ قد يظهر من المريض عورة أو أمر مستقبح ، فلا ينبغي بالعائد أ، يصرف بصره إليه .. بل يتعامى عنه ..

6- ألا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض .. وذلك أن المريض تعرض له حاجة إلى حمام .. أو تغيير لباس .. أو إخراج ريح .. أو نوم .. أو طعام .. فيحرج من العائدين أن يفعل شيئاً من ذلك أمامهم ..

إلا إن كان العائد حبيباً مقرباً للمريض .. وكان المريض يرغب في جلوسه ومؤانسته .. فلا بأس ..
7- إدخال السرور على قلب المريض وتذكيره بالأجر ..( أم منصور الجبالي – رحمها الله ) ..

وأخيراً .. ومن آداب الزيارة :

أن يدعو العائد للمريض بالعافية والصلاح، وقد وردت في ذلك أدعية عديدة منها: ( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) ( 7 مرات ) وأن يقرأ عليه الفاتحة والمعوذتين والإخلاص .

 

قبل العملية

تتنوع الأمراض وتتفاوت في خطورتها وكيفية علاجها ..

وقد يقرر الطبيب إجراء عملية للمريض .. وقبل إجراء العملية ..

ليتك تقبل مني هذه النصائح :

1/ الاستعانة بالله تعالى .. ودعاؤه واللجأ إليه .. فهو الذي بيده كشف الضر والبلاء ..

وناده كما ناداه أيوب ( رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) ..

ومن أقرب من الله رحيماً مجيباً ..

فابك بين يديه .. واشكُ همك إليه .. وتوكل عليه ..

2/ كن بطلاً .. واصبر وأظهر الرضا والتسليم .. بل والفرح والبشر لأهلك .. ولمن حولك ..

نعم حاول التغلب على مشاعرك قدر المستطاع .. ولن يصيبك إلا ما كتب الله لك ..

فحزنك وجزعك لن يغير في الواقع شيئاً ..

فلا تحزنِ الناس معك ..

واعلم أن أمر المؤمن كله له خير .. فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له .. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له .. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ..

فمن صبر فله الرضا .. ومن سخط فعليه السخط ..

3/ كتابة الوصية .. ولا تخف من ذلك .. فكتابتك لها لا تعني أنك ستموت !!

لا .. بل قرر العلماء أن كتابة الوصية واجبة على كل من كان عنده شيء يمكن أن يوصي فيه بشيء .. من مال أو ولد أو دين .. أو غير ذلك ..

قال ابن عمر t سمعت رسول الله e يقول : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين .. إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه .. رواه مسلم

فخذ ورقة واكتب فيها .. لي عند فلان كذا .. ولفلان عندي كذا .. وأوصي في بيتي أن يفعل به كذا .. إلى غير ذلك ..

أسأل الله لي ولك طول العمر مع حسن القول والعمل .. آمين ..

 

 

 

الغنيمة الباردة

أخي المريض - يا شفاك الله - ..

ما رأيك في عبادة كان النبي r يشتغل بها في جميع أحواله ..

0أمر الله المؤمنين بفعلها بعد الصلاة ..

وبعد الصيام .. وبعد الحج .. وأمررهم أثناء القتال بفعلها ..

أمرك بفعلها قبل الطعام .. وبعده ..

وقبل دخول الخلاء .. وبعده ..

وقبل دخول البيت .. وبعده ..

وقبل النوم .. وبعده ..

وقبل لبس الثياب .. وبعده ..

إنه ذكر الله .. وتحميده وشكره ..

فالمؤمنون هم ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) ..

والذكر لا يحتاج إلى طهارة قبله .. ولا إلى ستر عورة .. أو استقبال قبلة .. أو قيام أو جلوس .. بل تعبد به .. متى شئت ..

وكان أبو هريرة t يسبح في اليوم والليلة أكثر من اثني عشر ألف تسبيحة .. ويقول : أفتك بها نفسي من النار ..

ومن أفضل الذكر للمريض :

 

الدعاء

وقد روي أن للمريض دعوة مستجابة ..

 

الاستغفار..

فمن لزم الاستغفار .. جعل الله له من كل هم فرجاً .. ومن كل ضيق مخرجاً .. ورزقه من حيث لا يحتسب ..

والاستغفار هو مفتاح للرزق .. وبركة في المال .. وصلاح في الولد .. وشفاء للمرض ..

التسبيح والتهليل عموماً ..

قال r : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق اذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ) قالوا : بلى يا رسول الله .. قال : ذكر الله .. ( رواه أحمد والترمذي ) ..

 

المريض والمعصية

ذهبت يوماً لزيارة أحد المرضى .. قد أصيب بمرض خطير ..

كان المرض متمكناً منه .. وقد ضعف جسمه .. ورق عظمه .. وذبل جلده ..

وكان بعض الأصحاب قد أخبرني أن الطبيب أسرَّ إليه بأن نهايته تبدو قريبة .. والعلم عند الله وحده ..

أقبلت أمشي بهدوء إلى غرفته .. وأنا أنتظر أن يستقبلني صوت قراءة القرآن .. وأن أرى سجادة الصلاة مفروشة .. وأن أراه منكسراً مقبلاً على الله ..

طرقت الباب .. فأذن لي بالدخول .. وهو لا يدري من أنا ..

دخلت إلى غرفته .. هدوء قاتل .. ونور خافت ..

كانت الغرفة أشبه بالمقبرة .. المرآة قد غطيت بملاءة بيضاء .. حتى لا يرى نفسه وينتبه لتساقط شعره فيذكر مرضه ..

رآني فتهيأ للجلوس على سريره ..

كان عنده مجموعة من أصدقائه .. أكبر همهم أن ينسوه مرضه ..

يظنون أن أكبر خدمة يقدمونها إليه .. أن يضحكوه .. نعم .. يضحكوه .. ويضحكوه فقط ..

كان الشاب يضحك فعلاً .. أو يتظاهر بالضحك .. لا أدري !!

وقد نسي أن صحيفة عمله تطوى في كل لحظة .. وأن أكثر أجهزة جسمه قد تعطل عن العمل .. وأنه في أي لحظة يمكن أن يموت ..

عندما جلست .. قام أحدهم إلى التلفاز وخفض من صوت الأغنية ..

أحسست أنهم يشعرون بأني ثقيل .. أفسدت عليهم سهرتهم ..

لا حول ولا قوة إلا بالله .. ما أقسى هذه القلوب ..

جعلت أتلفت في أنحاء الغرفة .. تمنيت أن أرى مصحفاً .. سجادة صلاة .. مسجلاً وأشرطة قرآن .. لكني مع الأسف الشديد .. لم ألحظ من ذلك شيئاً ..

كل ما هنالك مجلات ..

إحداها على غلافها صورة ملكة جمال فرنسا ..

وأخرى على غلافها صورة أحد المطربين .. أذكر أني رأيت صورته يوماً في إحدى الجرائد .. ومجلة ثالثة عن الرياضة والشباب .. ورابعة ..

وكلها بجانبه .. ويبدو من أوراقها أنه قد تصفحها مراراً ..

في الحقيقة .. كدت أبكي وأنا أنظر إليه .. بل كنت أدافع دمعة ترقرقت في عيني مراراً ..

أصحابه حاولوا جاهدين أن يشركوني في الضحك .. كنت أجاملهم وأتبسم ..

جعل أحد أصحابه يتذكر موقفاً طريفاً .. سمع أنه وقع لي في محاضرة .. أو خلال لقاء تلفزيوني .. ليضحكه .. ويضحكني .. كان المسكين يظن نفسه خفيف الظل فجعل يطرح الكلام والتعليقات السخيفة على الآخرين .. في الحقيقة كان ثقيل الدم جداً .. لا تكاد تحتمله وهو ساكت .. فكيف إذا تكلم ..

كنت أنظر إليه متكلفاً التبسم وأقول في نفسي .. آآآآه مااااا أصبرهم عليه ..

لم أحتمل مجلسهم .. واستأذنت خارجاً ..

مشيت في ممر المستشفى خطوات .. فلما كدت أن أبلغ الباب .. قلت في نفسي .. لا يجوز أن أذهب حتى أصدقه النصح .. فلعل لقائي هذا يكون الأخير .. وكان ظني صحيحاً فقد صار اللقاء الأخير ..

رجعت إليه .. طرقت الباب ودخلت .. استأذنت أصحابه أن يدعوني معه برهة ..

خرجوا وأغلقوا الباب بهدوء .. بقيت أنا وياسر .. أحدّ بصره إليَّ .. أظن أنه عرف ما سأقول ..

قلت له بكل صراحة : ياسر .. لا وقت للمجاملة ..

تعلم أنك من أحب الناس إليّ .. وما زرتك وتركت أشغالي إلا شوقاً إليك ..

سمعت بمرضك ففجعت .. وأظن أن حزني عليك لا يقل عن حزنك على نفسك .. ولئن كنت تبكي على نفسك دمعاً .. فإني أبكي عليك دماً ..

خفض رأسه .. وبكى .. فخنقتني العبرة ..

قلت : ياسر .. دخلت عليك وأنا أعرفك .. ظننت أني سأراك على سجادتك .. أو بين يدي مصحفك .. فإذا أنت كرجل موعود بالخلود ..

ياسر .. قد أخبرك الطبيب باستفحال مرضك .. وأن أيامك في الدنيا قد تكون معدودة .. ولا أدري هل تصلي معنا الجمعة القادمة .. أم نصلي عليك ..

ازداد بكاؤه ..

ياسر .. حريٌّ بمن تطوى صحيفة عمله .. وتعد عليه أنفاس حياته .. - ومن يدري لعل كلانا كذلك - .. حريٌ به أن يتقرب إلى ربه بما يستطيع .. فضلاً عن ترك المحرمات ..

وإذا كان الصحيح المعافى مأمور بحب الله وطاعته .. فكيف بالمريض السقيم ..

ياسر .. أين ما كنت أحدثك به من قبل .. حول الدعاء والاستغفار .. والذكر ..

ياسر .. أين رقة قلبك .. ولطف تعبدك الذي عرفته فيك ..

ياسر .. أين الشجاعة والبطولة التي عهدتك عليها .. أين قولك يوماً : لا بد للمرء أن يبصق في وجه الشيطان ولا يلتفت إلى وسوسته ..

كيف تبعد عن الله في شدة حاجتك إليه !!

ازداد بكاؤه .. واسيته بكلمات ثناء ..

ثم خرجت من عنده .. وبعد ثلاثة أيام صلينا عليه .. رحمه الله ورفع درجته .. آمين ..

 

المرضى أنواع

سافرت إلى هناك في رمضان .. كان الجو شديد البرودة فكنا نجتمع في قبو المركز الإسلامي نصلي التراويح .. ثم ألقي عليهم الدرس اليومي ..

وكان يأتي به أحد أولاده .. يدفعه على عربة .. كان شيخاً كبيراً عاجزاً عن المشي ..

فقدته ليلة من الليالي .. فقلت لعل برودة الجو والأمطار حالت بينه وبين الصلاة في المسجد ..

فمرت الليلة الثانية .. والثالثة وهو لم يأتِ ..

سألت ولده عنه .. فأخبرني أنه أصيب بوعكة صحية .. وهو منوّم في المستشفى منذ ثلاثة أيام ..

اتفقت مع بعض المصلين أن نزوره عصر الغد ..

ذهبنا إلى المستشفى .. دخلنا .. كان مظهرنا ملفتاً للنظر ..

أنا ألبس ثوباً .. وأخر يلبس قميصاً طويلاً .. وثالث يلبس بنطالاً ..

سألتنا إحدى الممرضات .. هل أنتم جميعاً أولاده ؟ قلنا : لا ..

قالت : إذن أنتم جمعية خيرية .. قلنا : لا ..

قالت : إذن من أنتم ؟ ولماذا جئتم جميعاً إليه ؟ ومن دفع لكم تكاليف المواصلات ؟

لم أستغرب تعجبها .. فهي تعودت أن يمكث الشيخ الكبير في المستشفى الشهرين والثلاثة .. ولا يزوره أحد .. بل قد يموت ويتولى المستشفى تكفينه ودفنه .. وأولاده لا يسألون عنه ..

أفهمناها أننا مسلمون .. وأنه أخ لنا في الإسلام ..

مضينا إلى غرفة صاحبنا .. وبقي أحد الإخوة معها يحدثها عن الإسلام ..

دخلنا على أبي عماد .. كان شيخاً كبيراً .. آثار المرض عليه بادية ..

قبلت رأسه .. فبكى .. قلت له كيف حالك ..

قال : الحمد لله .. لا أستطيع الصوم لكني أقرأ القرآن وأذكر الله قدر استطاعتي ..

ومضى الشيخ يتحدث بصوت يقطعه البكاء عن شوقه إلى المسجد .. وصلاة التراويح .. والإخوة يصبرونه ..

أخذت أنظر في غرفته .. فلفت نظري شيخان كبيران .. طويلان .. من أهل هذه البلاد .. أوروبيان ..

لم أكن أتقن لغتهم .. أرسلت أحد الإخوة يسلم عليهما .. ويسألهما عن حالهما ..

كانا متعجبين منا .. والغريب أنهما سألانا الأسئلة نفسها التي سألتنا الممرضة .. من أنتم .. أي جمعية خيرية ..

فلما أخبرناهم أنه لا قرابة بيننا وبينه إلا قرابة الدين .. وأنه لا يدفع لنا أجراً على زيارتنا .. جعل كل منهما ينظر إلى الآخر ويتعجب ..

أذكر أن أحدهما قال متفاخراً على صاحبه : أنا ابنتي أرسلت لي بطاقة معايدة في العيد المنصرم ..!!

رجعت إلى صاحبي مودعاً .. وكان الرجلان يرمقانني من بعيد ..

فسألته عنهما .. هل بينكم أحاديث ومسامرة ؟

فقال : هذان يا شيخ يقضيان وقتهما بأعجوبة .. قلت : كيف ؟!

قال : ينامان إلى العصر .. فإذا استيقظا .. فإذا هما جائعان .. فتحضر لهما الممرضة الطعام .. فإذا شبعا بدءا يتأففان .. ويسخطان ويسبان .. فإذا ملأ صراخهما المستشفى .. جاءت الممرضة إلى كل منهما بزجاجة خمر .. وأظن أن فيها منوّم ..

فيشربانها .. وينامان إلى غد عصراً ..!! ثم يستيقظان .. ويعيدان البرنامج نفسه ..

 

الجزع من المرض

كان من طلابي في الكلية .. عمره قد قارب الأربعين .. وكنت أظنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين .. فقدته أياماً .. ثم رأيته .. فسألته عن غيابه ..

فقال : ولدي مريض .. وكنت أتابع علاجه ..

قلت : عسى الله أن يشفيه .. لكن ماذا أصابه ..

قال : أصابه تسمم في الدم .. وأثر على الكبد والدماغ .. والآن انتشر المرض في جسده ..

قلت : الحمد لله على كل حال .. وأبشر بالأجر العظيم .. حتى لو قد الله وفاته .. فأبشر فإن الصغير يشفع في والديه ..

فقال : يا شيخ .. صغير ماذا ؟!! عمره سبع عشرة سنة ..

قلت : الحمد لله .. الله يطرح البركة في إخوانه ..

فكتم عبراته وقال : يا شيخ .. ليس عندي من الذرية إلا هذا الولد ..!!

لكني ولله الحمد يا شيخ .. صابر محتسب ..

وكل شيء بقضاء وقدر ..

بالله عليك قارن بين هذا الصابر .. وبين فريق من الجزعة الضعفة الخورة .. من ضعيفي الإيمان .. عديمي التحمل ..

الذين لا يصبرون ولا يحتسبون ..

 

حبة صغيرة .. فقط !!!

قالت الدكتورة أريج :

طرقت ْ باب العيادة أدباً منها وقد أذنت لها الممرضة بالدخول ..
يرافقها زوجها وابنتها ..
تتأملها فتراها امرأة في العقد الرابع من عمرها ممتلئة الجسم قليلاً ..
مهتمة بنفسها بشكل واضح .. جلست على الكرسي .. وبدأت الحديث ..
يا دكتورة .. أحتاج رأيك في المشكلة التي أعاني منها منذ زمن طويل ..
ابتسمتُ مشجعة لها أن تبدأ ..
وأخذت تفصل لي في الأمر الذي أرهقها منذ سنين طويلة .. حبوب في وجهها ..
وقد دارت على الكثير من الأطباء ومراكز التجميل المختلفة لمعالجتها ..
وهاهي الآن تستخدم دواءً منذ أشهر وهذا النوع من العلاج معروف بأن متابعته الدقيقة مهمة جداً كي لا يؤثر على الكبد ..
قلت ُ لها .. أين هذه الحبوب ..؟
لم تريني مكانها وإنما استمرت في سرد معاناتها المادية والنفسية خلال فترة العلاج .. وأنها تعبت فعلا ..
كررت ُ سؤالي مرة أخرى ..( هلا سمحتي لي أن أفحص الحبوب التي تقصدين ؟ ) ..
عندها كشفت ما تبقى من وجهها ..!! وأنا أكاد أمسح عيني شكاً فيما رأيت؟
عفواً ..؟؟!! أين الحبوب التي تقصدينها يا عزيزتي ؟
قالت لي : هاهي يا دكتورة ؟ إنها حبة واحدة فقط !!
أنظر مرة أخرى .. إنها حبة صغيرة جداً لا تكاد تُرى ..
قلت لها ..أهذا ما يزعجك الآن ..؟
قالت : نعم يا دكتورة .. أنا تعبانة نفسيا منها ، أرجوك أن تساعديني ..؟!!
عجباً .. قلت لها : لكني أرى وجهك بحالة ممتازة .. قاطعتني ..
أوووه .. لا.. لا يا دكتورة ...إنه ليس بحالة طيبة ، وأنا غير مقتنعة !!
تمالكت نفسي طويلا ، وبقوة .. فقد كنت أفحص قبلها .. من هم في حالٍ أسوأ ...وقد ابتلاهم الله جل وعلا ..بأمراض شديدة ..لا علاج لها .. ولا أجدهم إلا شاكرين حامدين صابرين ..
قلت لها بصوت بطيء : يا عزيزتي أنا لا أرى أن الأمر بهذا السوء الذي تتخيلنه ..
حتى الدواء الذي تستخدمينه الآن ..لا أرى له أي داعٍ ، يمكنك أن تتوقفي عن تناوله اليوم ، وهذه الحبة .. الصغيرة جداً .. لا أريدها أن تأخذ من حيز اهتماماتك الكثير
تفاءلي وانظري إلى الجوانب الجميلة والنعم الكثيرة التي وهبها الله لك ، واشكريه عليها ..

بعد ثواني من الصمت .. قالت : دكتورة .. أريد أن أكمل العلاج ، أريد أن تختفي هذه الحبة .. و ..
قاطعتها أنا هذه المرة .. حسناً يا عزيزتي القرار قرارك أكملي تناول العلاج ..
ومتى أردتِ أن تتوقفي عنه ، مرحباً بك في العيادة ..
كنت أتمنى أن يدللها زوجها أمامي ..فيقول لها : لا تحتاجين الدواء يا زوجتي إن الحبة صغيرة ولا تستحق هذا العناء ..
فقد كنت أعرف أن تعليقه هذا سيكسر الكثير من الحواجز والمخاوف لكنه كان صامتاً طوال الوقت !!
آآآه يا للرجال ..! ( ا.هـ عن د.أريج العوفي ) 

وأخيراً

أخي المريض .. الطبيب .. المرافق ..

كانت هذه جولة سريعة حول المرضلاhttp://www.saaid.net/ 

=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق