الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

ذا تثاءب فالسنّة أن يردّ ما استطاع.إذا عَطَسَ يهوديٌّ‏. المَدْحِ.دح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه.

 فصل‏:‏ فيما إذا عَطَسَ يهوديٌّ‏.‏
17/691 روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الصحيحة، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان اليهودُ يتعاطسُونَ عندَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يَرْجُون أن يقولَ لهم‏:‏ يرحمُكُم اللَّهُ فيقولُ‏:‏ ‏"‏يَهديكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُمْ‏"‏‏:‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (1)
 فصل‏:‏ روينا في مسند أبي يعلى الموصلي (2)، وهو حديث ضعيف، وأخرجه الطبراني والدارقطني في الأفراد، والبيهقي وقال‏:‏ إنه منكر، وقال غيره‏:‏ إنه باطل ولو كان سنده كالشمس
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ حَدَّثَ حَدِيثاً فَعَطَسَ عِنْدَهُ فَهُوَ حَقُّ‏"‏ كل إسناده ثقات مُتقنون إلا بقية بن الوليد فمختلف فيه، وأكثرُ الحفاظ والأئمة يحتجّون بروايته عن الشاميين، وقد روي هذا الحديث عن معاوية بن يحيى الشامي
 فصل‏:‏ إذا تثاءب فالسنّة أن يردّ ما استطاع للحديث الصحيح الذي قدّمناه‏.‏ والسنّة أن يضع يده على فيه‏.‏
18/692 لما رويناه في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ على فَمِهِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يَدْخُلُ‏"‏‏.‏‏(3)
قلتُ‏:‏ وسواء كان التثاؤب في الصلاة أو خارجها، يستحبّ وضعُ اليد على الفم، وإنما يكره للمصلّي وضعُ يده على فمه في الصلاة إذا لم تكن حاجة كالتثاؤب وشبهه، واللّه أعلم‏.‏
 بابُ المَدْحِ
اعلم أنَّ مدح الإِنسان والثناءَ عليه بجميل صفاته قد يكون في وجه الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضورِه فلا منعَ منه إلا أن يُجازف المادحُ ويدخل في الكذب فيحرُم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحاً، ويُستحبُّ هذا المدح الذي لا كذبَ فيه إذا ترتب عليه مصلحةٌ ولم يجرّ إلى مفسدة بأن يبلغَ الممدوحَ فيفتتن به، أو غير ذلك‏.‏ وأما المدحُ في وجه الممدوح فقد جاءت فيه أحاديث تقتضي إباحتَه أو استحبابه، وأحاديث تقتضي المنع منه‏.‏ قال العلماء‏:‏ وطريق الجمع بين الأحاديث أن يُقال‏:‏ إن كان الممدوحُ عنده كمالُ إيمان وحسنُ يقين ورياضةُ نفس ومعرفةٌ تامة بحيث لا يفتتن ولا يغترّ بذلك ولا تلعبُ به نفسُه فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شيءٌ من هذه الأمور كُرِهَ مدحُه كراهةً شديدة‏.‏
 فمن أحاديث المنع‏:‏
1/693 ما رويناه في صحيح مسلم عن المقداد رضي اللّه عنه؛ أن رجلاً جعلَ يمدحُ عثمانَ رضي اللّه عنه، فعمدَ المقدادُ فجثا على ركبتيه، فجعلَ يحثو في وجهه الحصباءَ، فقال له عثمانُ‏:‏ ما شأنُك‏؟‏ فقال‏:‏ إنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا رأيْتُم المَدَّاحِينَ فاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرابَ‏"‏‏.‏(4)
2/694 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمع النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم رجلاً يُثني على رجل ويُطريه في المِدْحَةِ، فقال‏:‏ ‏"‏أَهْلَكْتُمْ أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ‏"‏‏.‏
قلتُ‏:‏ قوله يُطْريه‏:‏ بضم الياء وإسكان الطاء المهملة وكسر الراء وبعدها ياء مثناة تحت‏.‏ والإِطراء‏:‏ المبالغة في المدح ومجاوزة الحدّ، وقيل‏:‏ هو المدح‏.‏ (5)
3/695 وروينا في صحيحيهما، عن أبي بكرة رضي اللّه عنه؛ أن رجلاً ذُكِرَ عندَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ـ يقوله مراراً ـ إنْ كانَ أحَدُكُمْ مادِحاً لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ‏:‏ أحْسِبُ كَذَا وكَذَا إنْ كانَ يَرَى أنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلا يُزَكِّي على اللَّهِ أحَداً‏"‏‏.‏‏(6)
وأما  أحاديث الإِباحة فكثيرةٌ لا تنحصر، ولكن نُشير إلى أطراف منها‏:‏
فمنها قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح لأبي بكر رضي اللّه عنه ‏"‏ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما‏؟‏‏"‏(7)‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏لَسْتَ مِنْهُم (8) ‏"‏ أي لستَ من الذين يُسبلون أُزرَهم خيلاء‏.‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏يا أبا بَكْرٍ‏!‏ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَليَّ في صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنتُ مُتَّخِذاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلِيلاً‏"‏ (9)‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُم‏"‏ ‏(10)(‏البخاري ‏(‏3666‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1027‏)‏ ‏(‏86‏)‏ "(‏البخاري ‏(‏3666‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1027‏)‏ ‏(‏86‏)‏ أي من الذين يُدْعون من جميع أبواب الجنة لدخولها‏.‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ‏"‏ ‏(11)‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبيٌّ وَصِدّيقٌ وَشَهِيدَانِ ‏"(12) ‏"‏‏.‏
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرأيْتُ قَصْراً، فَقُلْتُ‏:‏ لِمَنْ هَذَا‏؟‏ قالُوا‏:‏ لِعُمَرَ، فأرَدْتُ أنْ أدْخُلَهُ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ‏"‏ ‏(13)‏ فقال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ بأبي وأمي يا رسول اللّه‏!‏ أعليك أغار‏؟‏‏.‏ وفي الحديث الآخر ‏"‏ياعُمَرُ‏!‏ ما لَقِيَكَ الشَّيْطانُ سَالِكاً فَجَّاً إِلاَّ سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ‏"‏ ‏(14)‏ ‏.‏
وفي الحديث الآخر ‏"‏افْتَحْ لِعُثْمانَ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ‏"‏(15)
وفي الحديث الآخر قال لعليّ‏:‏ ‏"‏أنْتَ مِنِّي وأنا مِنْكَ‏"‏(16)
وفي الحديث الآخر قال لعليّ‏:‏ ‏"‏أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏؟‏‏"(17)
وفي الحديث الآخر قال لبلال ‏"‏سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ في الجَنَّةِ‏"‏ ‏(18)
وفي الحديث الآخر قال لأُبيّ بن كعب ‏"‏لِيَهْنَأْكَ العِلْمُ أبا المنْذِرِ‏"‏ ‏(19)(‏مسلم ‏(‏810‏)‏ ، وفيه‏:‏ ‏ ‏ليهنكَ‏ ‏ وأبو داود ‏(‏1460‏)‏ "(‏مسلم ‏(‏810‏)‏ ، وفيه‏:‏ ‏"‏ليهنكَ‏"‏ وأبو داود ‏(‏1460‏)‏
وفي الحديث الآخر قال لعبد اللّه بن سَلاَم ‏"‏أنْتَ على الإِسْلامِ حتَّى تَمُوتَ‏"‏ ‏(20)
وفي الحديث الآخر قال للأنصاري ‏"‏ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالِكُما‏"(21)
وفي الحديث الآخر قال للأنصار ‏"‏أنْتُمْ مِنْ أحَبّ النَّاس إِليَّ‏"(22)
وفي الحديث الآخر قال لأشجّ عبد القيس‏:‏ ‏"‏إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ تَعالى وَرَسُولُهُ‏:‏ الحِلْمَ وَالأناة‏"‏ ‏(23)
وكلّ هذه الأحاديث التي أشرت إليها في الصحيح مشهورة، فلهذا لم أضفها، ونظائر ما ذكرناه من مدحه صلى اللّه عليه وسلم في الوجه كثيرة‏.‏ وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يُقتدى بهم رضي اللّه عنهم أجمعين فأكثر من أن تُحصر، واللّه أعلم‏.‏
قال أبو حامد الغزالي في آخر كتاب الزكاة من الإِحياء‏:‏ إذا تصدق إنسان بصدقة فينبغي للآخذ منه أن يَنظر، فإن كان الدافعُ ممّن يُحِبّ الشكر عليها ونشرها فينبغي للآخذ أن يخفيَها لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم، وإن علم من حاله أنه لا يُحِبّ الشكر ولا يقصده فينبغي أن يشكرَه ويظهر صدقته‏.‏ وقال سفيان الثوري رحمه اللّه‏:‏ مَن عرف نفسه لم يضرّه مدح الناس‏.‏ قال أبو حامد الغزالي بعد أن ذكر ما سبق في أول الباب‏:‏ فدقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يُراعي قلبَه، فإن أعمالَ الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماتة له، لكثرة التعب وقلة النفع، ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه‏:‏ إن تعلم مسألة منه أفضل مِنْ عبادة سنة، إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر ، وبالجهل به تموت عبادة العمر كله وتتعطل، وباللّه التوفيق‏.‏
 بابُ مدح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏32‏]‏ اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان‏:‏ مذموم، ومحبوب، فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع والتميّز على الأقران وشبه ذلك؛ والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة أو معلماً أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكِّراً أو مُصلحاً بين اثنين أو يَدفعُ عن نفسه شرّاً أو نحو ذلك، فيذكر محاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به أو نحو ذلك، وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص كقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏أنا النَّبِي لا كَذِبْ‏"‏"‏أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم‏"‏ ‏"‏أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ‏"‏ ‏:‏أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ‏"‏ ‏"‏إني أبِيتُ عنْدَ ربي‏"‏ وأشباهه كثيرة، وقال يوسف صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏{‏اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏55‏]‏ وقال شعيب صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏27‏]‏‏.‏
1/696 وقال عثمان رضي اللّه عنه حين حُصر ما رويناه في صحيح البخاري أنه قال‏:‏ ألستم تعلمون أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ‏؟‏‏"‏ فجهّزتهم، ألستم تعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة فَلَهُ الجَنَّةُ‏"‏ فحفرتها‏؟‏ فصدّقوه بما قاله‏.‏ (24)
2/697 وروينا في صحيحيهما، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقالوا‏:‏ لا يُحسن يصلي، فقال سعد‏:‏ واللّه إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل اللّه تعالى، ولقد كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذكر تمام الحديث‏.‏ (25)
3/698 وروينا في صحيح مسلم، عن عليّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ، إنه لعهدُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليّ ‏"‏أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق‏"‏‏.‏(26)
قلتُ‏:‏ بَرَأَ مهموز معناه خلق؛ والنسمة‏:‏ النفس‏.‏
4/699 وروينا في صحيحيهما، عن أبي وائل قال‏:‏ خطبنا ابنُ مسعود رضي اللّه عنه فقال‏:‏ واللّه لقد أخذتُ من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علمَ أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب اللّه تعالى وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه‏.‏ (27)
5/700 وروينا في صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت، فقال‏:‏ على الخبير سقطتَ ـ يعني نفسَه ـ وذكر تمام الحديث‏.‏ (28)
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا، وباللّه التوفيق‏.‏
 بابٌ في مسائل تتعلَّق بما تقدَّم
 مسألة‏:‏ يُستحبّ إجابةُ مَن ناداك بلبّيك وسعديك أو لبّيك وحدها، ويُستحبّ أنْ يقول لمن ورد عليه مرحِّباً، وأن يقول لمن أحسن إليه أو رأى منه فعلاً جميلاً‏:‏ حفظك اللّه وجزاك اللّه خيراً، وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة‏.‏
 مسألة‏:‏ ولا بأس بقوله للرجل الجليل في علمه أو صلاحه أو نحو ذلك‏:‏ جعلني اللّه فداكَ، أو فِداكَ أبي وأُمي وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة حذفتها اختصاراً‏.‏
 مسألة‏:‏ إذا احتاجتْ المرأة إلى كلام غير المحارم في بيع أو شراء أو غير ذلك من المواضع التي يجوز لها كلامه فيها فينبغي أن تفخِّمَ عبارتَها وتغلظها (29)‏ ولا تليِّنها مخافةً من طمعه فيها‏.‏
قال الإِمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا في كتابه ‏"‏البسيط‏"‏‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ المرأة مندوبة إذا خاطبتِ الأجانبَ إلى الغِلْظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، وكذلك إذا خاطبتْ مَحرماً عليها بالمصاهرة، ألا ترى أن اللّه تعالى أوصى أُمّهات المؤمنين وهنّ محرّمات على التأبيد بهذه الوصية، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساءَ النَّبيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏32‏]‏ قلتُ‏:‏ هذا الذي ذكره الواحدي من تغليظ صوتها، كذا قاله أصحابنا‏.‏ قال الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا‏:‏ طريقُها في تغليظه أن تأخذ ظهرَ كفّها بفيها وتُجيب كذلك، واللّه أعلم‏.‏ وهذا الذي ذكره الواحديُّ من أن المحرّم بالمصاهرة كالأجنبي في هذا ضعيف وخلاف المشهور عند أصحابنا؛ لأنه كالمَحرم بالقرابة في جواز النظر والخلوة‏.‏ وأما أُمَّهاتُ المؤمنين فإنهنّ أُمّهاتٌ في تحريم نكاحهنّ ووجوب احترامهنّ فقط، ولهذا يحلّ نكاح بناتهنّ، واللّه أعلم‏.‏ 
إقرأ بعده.......

مسائل تتفرّعُ على السَّلام.عند الخروج من الحمّام. إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه. المصافحة‏. ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرّك

بابُ في مسائل تتفرّعُ على السَّلام
 مسألة‏:‏ قال أبو سعد المتولّي‏:‏ التحيّة عند الخروج من الحمّام بأن يُقال له‏:‏ طابَ حمّامُك، لا أصل لها؛ ولكن روي أن عليّ رضي اللّه عنه قال لرجل خرج من الحمّام‏:‏ طَهَرْتَ فلا نَجِسْتَ‏.‏ قلت‏:‏ هذا المحلّ لم يصحُّ فيه شيء، ولو قال إنسان لصاحبه على سبيل المودة والمؤالفة واستجلاب الودّ‏:‏ أدام اللّه لك النعيم ونحو ذلك من الدعاء فلا بأس به‏.‏
 مسألة‏:‏ إذا ابتدأ المارُّ الممرور عليه فقال‏:‏ صبَّحكَ اللّه بالخير، أو بالسعادة، أو قوّاك اللّه، ولا أوحشَ اللّه منك، أو غير ذلك من الألفاظ التي يستعملها الناسُ في العادة، لم يستحقّ جواباً؛ لكن لو دعا له قبالة ذلك كان حسناً، إلا أنْ يَتْرُكَ جوابَه بالكلية زجراً في تخلّفه وإهماله السلام، وتأديباً له ولغيره في الاعتناء بالابتداء بالسلام‏.‏
 فصل‏:‏ إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه وصيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لم يُكره بل يُستحبّ؛ وإن كان لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهة‏.‏ وقال المتولّي من أصحابنا‏:‏ لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام‏.‏
1/651 روينا في سنن أبي داود، عن زارع رضي اللّه عنه، وكان في وفد عبد القيس قال‏:‏ فجعلْنا نتبادرُ من رواحلنا فنقبِّلُ يدَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ورجلَه‏.‏ (1)
قلتُ‏:‏ زارع بزاي في أوّله وراء بعد الألف، على لفظ زَارع الحنطة وغيرها‏.‏
2/652 وروينا في سنن أبي داود أيضاً، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قصةً قال فيها‏:‏ فدنونا ـ يعني من النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ـ فقَبَّلنا يده‏.‏(2)
وأما تقبيل الرجُل خدَّ ولده الصغير، وأخيه، وقُبلة غير خدّه من أطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فسُنّةٌ‏.‏ والأحاديث فيه كثيرة صحيحة مشهورة وسواء الولد الذكر والأنثى‏.‏ وكذلك قبلته ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال على هذا الوجه‏.‏ وأما التقبيلُ بالشهوة فحرام بالاتفاق‏.‏ وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام بالاتفاق على القريب والأجنبي‏.‏
3/653 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم،عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قَبَّلَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الحسنَ بن عليّ رضي اللّه عنهما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي‏.‏ فقال الأقرعُ‏:‏ إن لي عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً، فنظرَ إليه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ‏"‏‏.‏‏(3)
4/654 وروينا في صحيحيهما، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قدم ناسٌ من الأعراب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا‏:‏ تُقَبِّلُونَ صبيانَكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ لكنَّا واللّه ما نُقَبِّلُ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أوَ أمْلِكُ أنْ كانَ اللَّهُ تَعالى نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ‏؟‏‏"‏ هذا لفظ إحدى الروايات، وهو مروي بألفاظ‏.‏ ‏(4)
5/655 وروينا في صحيح البخاري وغيره، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ أخذَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابنَه إبراهيم فقَبّله وشمّه‏.‏(5)
6/656 وروينا في سنن أبي داود، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال‏:‏ دخلتُ مع أبي بكر رضي اللّه عنه أوّلَ ما قَدِمَ المدينةَ، فإذا عائشةُ ابنته رضي اللّه عنها مضطجعةٌ قد أصابَها حُمَّى، فأتاها أبو بكر فقال‏:‏ كيف أنتِ يا بنيّة‏؟‏‏!‏ وقبَّلَ خدَّها‏.‏ (6)
7/657 وروينا في كتب الترمذي والنسائي وابن ماجه، بالأسانيد الصحيحة، عن صفوان بن عَسَّال الصحابيّ رضي اللّه عنه، وعَسَّال بفتح العين وتشديد السين المهملتين، قال‏:‏ قال يهوديّ لصاحبه‏:‏ اذهب بنا إلى هذا النبيّ، فأتيا رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألاه عن تسعِ آياتٍ بيِّناتٍ، فذكرَ الحديثَ إلى قوله‏:‏ فقبّلوا يدَه ورجلَه وقالا‏:‏ نشهدُ أنك نبيٌّ‏.‏ (7)
8/658 وروينا في سنن أبي داود، بالإِسناد الصحيح المليح، عن إِياس بن دَغْفَل قال‏:‏ رأيتُ أبا نضرة قَبّل خدّ الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما‏.‏ ‏(8)
قلت‏:‏ أبو نَضْرَةَ بالنون والضاد المعجمة‏:‏ اسمه المنذر بن مالك بن قطعة، تابعي ثقة‏.‏ ودَغْفَل بدال مهملة مفتوحة ثم غين معجمة ساكنة ثم فاء مفتوحة ثم لام‏.‏
وعن ابن عمر (9)‏ رضي اللّه عنهما أنه كان يقبّل ابنه سالماً ويقول‏:‏ اعجبوا من شيخ يُقَبِّلُ شيخاً‏.‏
وعن سهل بن عبد اللّه التستري السيد الجليل أحد أفراد زهّاد الأمة وعبّادها رضي اللّه عنه أنه كان يأتي أبا داود السجستاني ويقول‏:‏ أخرج لي لسانكَ الذي تُحدِّثُ به حديثَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأُقَبِّله فيقبِّلُه‏.‏ وأفعالُ السلف في هذا الباب أكثر من أن تُحصر، واللّه أعلم‏.‏
 فصل‏:‏ ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرّك، ولا بأس بتقبيل الرجُل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه‏.‏
9/659 روينا في صحيح البخاري، عن عائشة رضي اللّه عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت‏:‏ دخلَ أبو بكر رضي اللّه عنه فكشفَ عن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقَبّله، ثم بكى‏.(10)
10/660 وروينا في كتاب الترمذي، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قدِمَ زيدُ بنُ حارثةَ المدينةَ ورسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرعَ البابَ، فقامَ إليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يجرّ ثوبَه، فاعتنقه وقبَّله‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (11)
وأما المعانقةُ وتقبيلُ الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه فمكروهان، نصَّ على كراهتهما أبو محمد البغويّ وغيره من أصحابنا‏.‏
ويدلّ على الكراهة‏:‏
11/661 ما رويناه في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ الرجل منّا يَلقى أخاه أو صديقه أينحني له‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ قال‏:‏ أفيلتزمه ويقبّله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ قال‏:‏ فيأخذه بيده ويصافحُه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نَعَمْ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (12)
قلت‏:‏ وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة، وأنه لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وهو في غير الأمرد الحسن الوجه؛ فأما الأمردُ الحسنُ فيحرم بكلّ حال تقبيله، سواء قدم مَن سفر أم لا‏.‏ والظاهر أن معانقته كتقبيله، أو قريبة من تقبيله، ولا فرق في هذا بين أن يكون المقبِّل والمقبَّل رجلين صالحين أو فاسقين، أو أحدُهما صالحاً، فالجميعُ سواء‏.‏ والمذهبُ الصحيح عندنا تحريم النظر إلى الأمرد الحسن ولو كان بغير شهوة، وقد أمن الفتنة، فهو حرام كالمرأة لكونه في معناها ‏(13)
 فصل‏:‏ في المصافحة‏:‏ اعلم أنها سنّة مجمعٌ عليها عند التلاقي‏.‏
12/662 روينا في صحيح البخاري، عن قتادة قال‏:‏ قلتُ لأنس رضي اللّه عنه أكانتِ المصافحةُ في أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ (14)
13/663 وروينا في صحيح البخاري ومسلم في حديث كعب بن مالك رضي اللّه عنه في قصة توبته قال‏:‏ فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه رضي اللّه عنه يُهرول، حتى صافحني وهنّأني‏.‏ (15)
14/664 وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيانِ فَيتَصافَحانِ إِلاَّ غُفرَ لَهُما قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا‏"(16)
15/665 وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، عن البراء رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏ما مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيانِ إلاَّ غُفرَ لَهُما قَبْلَ أنْ يَتَفَرَّقا‏"‏‏.‏‏(17)
16/666 وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رجلٌ‏:‏ يا رسولَ اللّه‏!‏ الرجلُ منّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له‏؟‏، قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ قال‏:‏ أفيلتزمه ويقبله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ قال‏:‏ فيأخذ بيده ويصافحه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نَعَمْ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وفي الباب أحاديث كثيرة‏.‏ (18)
17/667 وروينا في موطأ الإِمام مالك رحمه اللّه، عن عطاء بن عبد اللّه الخراسانيّ قال‏:‏ قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْناءُ‏"‏ قلت‏:‏ هذا حديث مرسل‏.‏ (19)
واعلم أن هذه المصافحة مستحبّة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناسُ من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصلَ له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنّة، وكونهم حافَظوا عليها في بعض الأحوال، وفرّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها، لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها‏.‏
وقد ذكر الشيخ الإِمام أبو محمد عبد السلام رحمه اللّه في كتابه ‏"‏القواعد‏"‏ أن البدع على خمسة أقسام‏:‏ واجبة، ومحرّمة، ومكروهة، ومستحبّة، ومباحة‏.‏ قال‏:‏ ومن أمثلة البدع المباحة المصافحة عقب الصبح والعصر، واللّه أعلم‏.‏
قلت‏:‏ وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظرَ إليه حرام كما قدَّمنا في الفصل الذي قبل هذا، وقد قال أصحابنا‏:‏ كلّ مَن حَرُمَ النظرُ إليه حَرُمَ مسُّه، بل المسّ أشدّ، فإنه يحلّ النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوّجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسُّها في شيء من ذلك، واللّه أعلم‏.‏
فصل‏:‏ ويُستحبّ مع المصافحة، البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة وغيرها‏.‏
18/668 روينا في صحيح مسلم، عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال لي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً، وَلَوْ أنْ تَلْقَى أخاكَ بِوَجْهِ طَلِيقٍ‏"‏‏.‏(20)
19/669 وروينا في كتاب ابن السني، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ المُسْلِمَيْنِ إذَا الْتَقَيا فَتَصَافَحَا وَتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ تَنَاثَرَتْ خَطاياهُما بَينَهُما‏"‏ وفي رواية ‏"‏إذَا الْتَقَى المُسْلِمانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ تَعالى وَاسْتَغْفَرَا، غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا‏"‏‏.‏‏(21)
20/670 وروينا فيه، عن أنس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحابَّيْنِ في اللَّهِ يَسْتَقْبِلُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ فَيُصَافِحَهُ فَيُصَلِّيانِ على النَّبِيّ صلى اللّه عليه وسلم إِلاَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حتَّى تُغْفَرَ ذُنُوبهُمَا ما تَقَدَّمَ منْها وَما تَأخَّرَ‏"‏‏.‏‏(22)
21/671 وروينا فيه، عن أنس أيضاً، قال‏:‏ ما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدِ رجلٍ ففارقه حتى قال‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ‏"‏‏.‏‏(23)
 فصل‏:‏ ويُكره حنْيُ الظهر في كل حال لكل أحد، ويدلّ عليه ما قدَّمنا في الفصلين المتقدمين من حديث أنس، وقوله‏:‏ أينحني له‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ وهو حديث حسن كما ذكرناه ولم يأت له معارض فلا مصيرَ إلى مخالفته، ولا يغترّ بكثرة مَن يفعله ممّن ينسب إلى علم أو صلاح وغيرهما من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏7‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏‏.‏
وقد قدَّمنا في كتاب الجنائز (24) ، عن الفضيل بن عياض رضي اللّه عنه ما معناه‏:‏ اتّبعْ طُرُقَ الهدى، ولا يضرّك قلّة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغترّ بكثرة الهالكين، وباللّه التوفيق‏.‏
 فصل‏:‏ وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحبّ لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية مصحوبة بصيانة، أو له ولادة أو رحم مع سنّ ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبِرّ والإِكرام والاحترام لا للرياء والإِعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمرّ عمل السلف والخلف، وقد جمعت في ذلك جزءاً جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوال السلف وأفعالهم الدّالة على ما ذكرته، ذكرت فيه ما خالفها وأوضحت الجواب عنه، فمن أشكل عليه من ذلك شيء ورغب في مطالعة ذلك الجزء رجوت أن يزول إشكاله إن شاء اللّه تعالى، واللّه أعلم‏.‏
 فصل‏:‏ يستحبّ استحباباً متأكداً زيارة الصالحين والإِخوان والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرّهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحواله ومراتبهم وفراغهم‏.‏ وينبغي أن تكون زيارته لهم على وجه لا يكرهونه وفي وقت يرتضونه‏.‏ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة، ومن أحسنها‏:‏
22/672 ما رويناه في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أن رجلاً زارَ أخاً له في قرية أخرى، فأرصدَ اللّه تعالى على مَدْرَجتِه مَلَكاً، فلما أتى عليه قال‏:‏ أين تُريد‏؟‏ قال‏:‏ أُريدُ أخاً لي في هذه القرية، قال‏:‏ هل لكَ عليه من نعمة ترُبُّها‏؟‏ قال‏:‏ لا، غيرَ أني أحببتُه في اللّه تعالى، قال‏:‏ فإني رسولُ اللّه إليك بأن اللّه تعالى قد أحبَّكَ كما أحببتَه فيه‏"‏‏.(25)
قلت‏:‏ مدرجتُه بفتح الميم والراء‏:‏ طريقه‏.‏ ومعنى تَرُبُّها‏:‏ أي تحفظها وتراعيها وتربيها كما يُربِّي الرجلُ ولدَه‏.‏
23/673 وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة أيضاً قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ عادَ مَرِيضاً، أوْ زَارَ أخاً لَهُ في اللَّهِ تَعالى، نادَاهُ مُنادٍ بأنْ طِبْتَ وَطابَ مَمْشاكَ، وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنزِلاً‏"‏‏.‏(26)
 فصل‏:‏ في استحباب طلب الإِنسان من صاحبه الصالح أن يزورَه، وأن يكثرَ من زيارته‏.‏
24/674 روينا في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال‏:‏ قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لجبريل صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنا‏؟‏ فنزلتْ ‏{‏وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أيْدِينا وَما خَلْفَنا‏} ‏[‏مريم‏:‏64‏]‏ ‏(27)
بابُ تَشْمِيتِ العَاطسِ وحُكم التَّثَاؤُب
1/675 روينا في صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبُّ العُطاسَ، وَيَكْرَهُ التَثاؤُبَ، فإذا عَطَسَ أحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى كان حَقّاً على كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ‏.‏ وأمَّا التَّثاؤُبُ فإنَّما هُوَ مِنَ الشَّيْطان، فإذا تَثَاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ ما اسْتَطاعَ، فَإن أحدَكم إذا تَثاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطانُ‏"‏‏.‏ (28)
قلتُ‏:‏ قال العلماء‏:‏ معناه أن العطاسَ سببه محمود، وهو خفّة الجسم التي تكون لقلة الأخلاط وتخفيف الغذاء، وهو أمر مندوب إليه لأنه يُضعف الشهوة ويُسَهِّلُ الطاعة، والتثاؤب بضدّ ذلك، واللّه أعلم‏.‏
2/676 وروينا في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أيضاً، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُل‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أخُوهُ أوْ صَاحبُهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فإذَا قالَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ‏:‏ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُمْ‏"‏ قال العلماء‏:‏ بالكم‏:‏ أي شأنكم‏.‏ (29)
3/677 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ عَطَسَ رجلان عند النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فشمّت أحدَهما ولم يشمّت الآخر، فقال الذي لم يشمّته‏:‏ عَطَسَ فلان فشمّته، وعطستُ فلم تشمّتني، فقال‏:‏ ‏"‏هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعالى، وَإنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعالى‏"‏‏.‏‏(30)
4/678 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعريّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلا تُشَمِّتُوهُ‏"‏‏.‏‏(31)
5/679 وروينا في صحيحيهما، عن البراء رضي اللّه عنه قال‏:‏ أمَرَنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع‏:‏ أمَرَنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وردّ السلام، ونصر المظلوم، وإبرار القسم‏.‏ (32)
6/680 وروينا في صحيحيهما، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏حَقُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ خَمْسٌ‏:‏ رَدُّ السَّلامِ، وَعِيادَةُ المَرِيض، وَاتِّباعُ الجَنائِز، وإجابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العاطِس‏"‏ وفي رواية لمسلم ‏"‏حَقُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ سِتٌّ‏:‏ إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّه تَعالى فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ‏"‏‏.‏‏(33)
 فصل‏:‏ اتفق العلماء على أنه يُستحبّ للعاطس أن يقولَ عقب عطاسه‏:‏ الحمد للّه، فلو قال‏:‏ الحمد للّه ربّ العالمين كان أحسن، ولو قال‏:‏ الحمد للّه على كل حال كان أفضل‏.‏
7/681 روينا في سنن أبي داود وغيره، بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ، وَلْيَقُلْ أخُوهُ أوْ صَاحِبُهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّه، وَيَقُولُ هُوَ‏:‏ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ‏"‏‏.‏‏(34)
8/682 وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما؛ أن رجلاً عَطَسَ إلى جنبه فقال‏:‏ الحمدُ للّه والسَّلام على رسول اللّه، فقال ابن عمر‏:‏ وأنا أقول‏:‏ الحمدُ للّه والسلامُ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وليس هكذا علّمنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، علّمنا أن نقول‏:‏ ‏"‏الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ ويُستحبّ لكل مَن سمعه أن يقول لَه‏:‏ يرحمك اللّه، أو يرحمكم اللّه، أو رحمكم اللّه، ويُستحبّ للعاطس بعد ذلك أن يقول‏:‏ يهديكم اللّه ويُصلح بالكم، أو يغفر اللّه لنا ولكم (35) (36)
9/683 وروينا في موطأ مالك، عنه، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما؛ أنه قال‏:‏ إذا عَطَسَ أحدُكم فقيل له‏:‏ يرحمُك اللّه، يقول‏:‏ يرحمنا اللّه وإياكم، ويغفرُ اللّه لنا ولكم‏.‏ ‏(37)
وكل هذا سنّة ليس فيه شيء واجب، قال أصحابنا‏:‏ والتشميتُ وهو قوله يرحمك اللّه سنّة على الكفاية لو قاله بعضُ الحاضرين أجزأ عنهم، ولكن الأفضل أن يقوله كلُّ واحد منهم؛ لظاهر قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي قدّمناه ‏"‏كانَ حَقّاً على كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أنْ يَقُوْلَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ‏"‏ هذا الذي ذكرناه من استحباب التشميت هو مذهبنا‏:‏ واختلف أصحابُ مالك في وجوبه، فقال القاضي عبد الوهاب‏:‏ هو سنّة، ويُجزىء تشميتُ واحد من الجماعة كمذهبنا، وقال ابن مُزَيْنٍ‏:‏ يَلزم كلَّ واحد منهم، واختاره ابن العربي المالكي‏.‏
 فصل‏:‏ إذا لم يحمد العاطس لا يُشَمَّتُ؛ للحديث المتقدم‏.‏ وأقلُّ الحمد والتشميت وجوابِه أن يرفعَ صوتَه بحيث يُسمِعُ صاحبَه‏.‏
 فصل‏:‏ إذا قال العاطسُ لفظاً آخرَ غير الحمد للّه لم يستحقّ التشميت‏.‏
10/684 روينا في سنن أبي داود والترمذي، عن سالم بن عبيد الأشجعي الصحابي رضي اللّه تعالى عنه قال‏:‏ بينا نحنُ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ عَطَسَ رجلٌ من القوم، فقال‏:‏ السلام عليكم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وَعَلَيْكَ وَعَلى أُمِّكَ، ثم قال‏:‏ إذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ـ فذكر بعض المحامد ـ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَرُدَّ ـ يعني عليهم ـ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ‏"‏‏.‏‏(38)
 فصل‏:‏ إذا عَطَسَ في صلاته يُستحبّ أن يقول‏:‏ الحمد للّه، ويُسمع نفسَه، هذا مذهبنا‏.‏ ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال‏:‏ أحدُها هذا، واختاره ابن العربي‏.‏ والثاني يحمد في نفسه، والثالث قاله سحنون‏:‏ لا يحمَد جهراً ولا في نفسه‏.‏
 فصل‏:‏السنّة إذا جاءَه العطاسُ أن يضعَ يدَه أو ثوبَه أو نحو ذلك على فمه وأن يخفضَ صوتَه‏.‏
11/685 روينا في سنن أبي داود والترمذي، عن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا عطَس وضعَ يدَه أو ثوبَه على فِيه، وخفضّ أو غضّ بها صوتَه‏.‏ ـ شكّ الراوي أيّ اللفظين قال ـ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ (39)
12/686 وروينا في كتاب ابن السني، عن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بالتَّثاؤُبِ والعُطاسِ‏"‏‏.‏‏(40)
13/687 وروينا فيه، عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏التَّثاؤُبُ الرَّفِيعُ وَالعَطْسَةُ الشَّدِيدَةُ مِنَ الشَّيْطانِ‏"‏‏.‏(41)
 فصل‏:‏ إذا تَكرّرَ العطاسُ من إنسان متتابعاً، فالسنّة أن يشمِّته لكل مرّة إلى أن يبلغ ثلاث مرّات‏.‏
14/688 روينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي، عن سلمة بن الأكوع رضي اللّه عنه؛
أنه سمعَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وَعَطَسَ عندَه رجلٌ، فقال له‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، ثم عَطَسَ أخرى فقال له رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الرَّجُلُ مَزْكُومٌ‏"‏ هذا لفظ رواية مسلم‏.‏ وأما رواية أبي داود والترمذي فقالا‏:‏ قال سلمة‏:‏ عَطَسَ رجل عندَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا شاهدٌ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَرْحَمُكَ اللَّهُ‏"‏ ثم عَطَسَ الثانية أو الثالثة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (42)
15/689 وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي، عن عبيد اللّه بن رفاعة الصحابيّ رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يُشَمَّتُ العاطِسُ ثَلاثاً، فإنْ زَادَ فإنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ وَإنْ شِئْتَ فَلا‏"‏ فهو حديث ضعيف، قال فيه الترمذي‏:‏ حديث غريب وإسناده مجهول‏.‏ (43)
16/690 وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمِّتهُ جَلِيسُهُ، وَإِنْ زَاد على ثَلاثَة فَهُوَ مَزْكُومٌ، وَلا يُشَمَّتُ بَعْدَ ثَلاثٍ‏"‏‏.‏‏(44)
واختلف العلماء فيه، فقال ابن العربي المالكي‏:‏ قيل يقال له في الثانية‏:‏ إنك مزكوم، وقيل يقال له في الثالثة، وقيل في الرابعة، والأصحّ أنه في الثالثة‏.‏ قال‏:‏ والمعنى فيه أنك لست ممّن يُشمَّت بعد هذا، لأن هذا الذي بك زكامٌ ومرض لا خفّة العطاس‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإذا كان مرضاً فكان ينبغي أن يُدعى له ويُشمّت، لأنه أحقّ بالدعاء من غيره‏؟‏ فالجواب أنه يُستحبّ أن يُدعى له لكن غير دعاء العطاس المشروع، بل دعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ونحو ذلك، ولا يكون من باب التشميت‏.‏
 فصل‏:‏ إذا عَطَسَ ولم يحمد اللّه تعالى فقد قدَّمنا أنه لا يُشمّت، وكذا لو حمد اللّه تعالى ولم يسمعه الإِنسان لا يشمّته، فإن كانوا جماعة فسمعه بعضُهم دون بعض فالمختار أنه يُشمّته من سمعه دون غيره‏.‏
وحكى ابن العربي خلافاً في تشميت الذين لم يسمعوا الحمد إذا سمعوا تشميتَ صاحبهم، فقيل يشمّته لأنه عرف عطاسه وحمده بتشميت غيره، وقيل لا، لأنه لم يسمعه‏.‏
واعلم أنه إذا لم يحمد أصلاً يُستحبّ لمن عنده أن يذكِّره الحمد، هذا هو المختار‏.‏
وقد روينا في معالم السنن للخطابي نحوه عن الإِمام الجليل إبراهيم النخعي، وهو باب النصيحة والأمر بالمعروف، والتعاون على البرّ والتقوى، وقال ابن العربي‏:‏ لا يفعل هذا وزعم أنه جَهْلٌ من فاعله‏.‏ وأخطأ في زعمه، بل الصواب استحبابه لما ذكرناه، وباللّه التوفيق‏.‏

اقرأ بعده .........
 

الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح.مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه.

 بابُ الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح
اعلم أنّا مأمورون بإفشاء السلام كما قدّمناه، لكنه يتأكد في بعض الأحوال ويخفّ في بعضها‏.‏ ونُهي عنه في بعضها، فأما أحوال تأكده واستحبابه فلا تنحصر، فإنها الأصل فلا نتكلف التعرّض لأفرادها‏.‏
واعلم أنه يدخل في ذلك السلام على الأحياء والموتى، وقد قدّمنا في كتاب أذكار الجنائز كيفية السلام على الموتى‏.‏ وأما الأحوال التي يُكره فيها أو يخفّ أو يُباح فهي مستثناة من ذلك فيحتاج إلى بيانها، فمن ذلك إذا كان المسلَّم عليه مشتغلاً بالبول أو الجماع أو نحوهما فيُكره أن يُسلَّم عليه، ولو سلَّم لا يستحقّ جواباً، ومن ذلك من كان نائماً أو ناعساً، ومن ذلك من كان مُصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاةَ، أو كان في حمام أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثر السلام عليه فيها، ومن ذلك إذا كان يأكلُ واللقمة في فمه، فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحقّ جواباً‏.‏ أما إذا كان على الأكل وليست اللقمةُ في فمه فلا بأسَ بالسلام، ويجبُ الجواب‏.‏ وكذلك في حال المبايعة وسائر المعاملات يُسلّم ويجب الجواب‏.‏ وأما السلام في حال خطبة الجمعة فقال أصحابنا‏:‏ يُكره الابتداء به لأنهم مأمورون بالإِنصات للخطبة، فإن خالفَ وسلَّم فهل يُرَدّ عليه‏؟‏ فيه خلاف لأصحابنا، منهم مَن قال‏:‏ لا يُرَدّ عليه لتقصيره، ومنهم مَن قال‏:‏ إن قلنا إن الإِنصاتَ واجبٌ لا يردّ عليه، وإن قلنا إن الإِنصاتَ سنّة رَدَّ عليه واحد من الحاضرين، ولا يردّ عليه أكثر من واحد على كل وجه‏.‏
وأما السَّلامُ على المشتغل بقراءة القرآن، فقال الإِمام أبو الحسن الواحدي‏:‏ الأولى ترك السلام عليه لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلَّم عليه كفاه الردّ بالإِشارة، وإن ردّ باللفظ استأنف الاستعاذة ثم عاد إلى التلاوة، هذا كلام الواحدي، وفيه نظر؛ والظاهر أن يُسلّم عليه ويجب الردّ باللفظ‏.‏ أما إذا كان مشتغلاً بالدعاء مستغرقاً فيه مجمع القلب عليه، فيحتمل أن يُقال هو كالمشتغل بالقراءة على ما ذكرناه، والأظهر عندي في هذا أنه يُكره السلام عليه، لأنه يتنكد به ويشقّ عليه أكثر من مشقة الأكل‏.‏ وأما الملبِّي في الإِحرام فيُكره أن يُسلَّم عليه، لأنه يُكره له قطعُ التلبية، فإن سلَّم عليه ردَّ السلامَ باللفظ، نصّ عليه الشافعي وأصحابنا رحمهم اللّه‏.‏
 فصل‏:‏ قد تقدمت الأحوالُ التي يُكره فيها السلام، وذكرنا أنه لا يستحقّ فيها جواباً فلو أراد المسلَّم عليه أن يتبرع بردّ السلام هل يشرع له، أو يُستحبّ‏؟‏ فيه تفصيل؛ فأما المشتغل بالبول ونحوه فيُكره له ردُّ السلام، وقد قدَّمنا هذا في أول الكتاب؛ وأما الأكل ونحوه فيُستحبّ له الجواب في الموضع الذي لا يجب؛ وأما المصلِّي فيحرم عليه أن يقول‏:‏ وعليكم السلام، فإن فعلَ ذلك بطلتْ صلاتُه إن كان عالماً بتحريمه، وإن كان جاهلاً لم تبطل على أصحّ الوجهين عندنا، وإن قال عليه السلام بلفظ الغَيبة لم تبطل صلاتُه لأنه دعاءٌ ليس بخطاب‏.‏ والمستحبُّ أن يردّ عليه في الصلاة بالإِشارة ولا يتلفظ بشيء، وإن ردّ بعد الفراغ من الصلاة باللفظ فلا بأس‏.‏ وأما المؤذّن فلا يُكره له ردُّ الجواب بلفظه المعتاد، لأن ذلك يسير لا يُبطلُ الأذانَ ولا يُخلّ به‏.‏
 بابُ مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه
اعلم أنَّ الرجلَ المسلمَ الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسَلِّم ويُسَلَّم عليه، فيُسنّ له السلام، ويجب الردّ عليه‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ والمرأةُ مع المرأة كالرجل مع الرجل‏.‏ وأما المرأة مع الرجل؛ فقال الإِمام أبو سعد المتوليّ‏:‏ إن كانت زوجته أو جاريتَه أو محرَماً من محارمه، فهي معه كالرجل، فيستحبّ لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر ردّ السلام عليه؛ وإن كانت أجنبيةً، فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمتْ لم تستحق جواباً فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها؛ وإذا كانت النساء جمعاً فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ ولا عليها أو عليهم فتنة‏.‏
1/623 روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها، عن أسماءَ بنت يزيدَ رضي اللّه عنها قالت‏:‏ مرَّ علينا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذا الذي ذكرته لفظ رواية أبي داود‏.‏ وأما رواية الترمذي ففيها عن أسماء‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم‏.‏ (1)
2/624 وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ‏.‏ ‏(2)
3/625 وروينا في صحيح البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه، قال‏:‏ كانتْ فينا امرأةٌ‏.‏ وفي رواية‏:‏ كانتْ لنا عجوزٌ تأخذُ من أصول السِّلق فتطرحُه في القِدْر وتكركرُ حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا نُسلِّم عليها فتقدمه إلينا‏.‏ (3) قلت‏:‏ تكركر معناه‏:‏ تطحن‏.‏
4/626 وروينا في صحيح مسلم، عن أُمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها قالت‏:‏ أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يومَ الفتح وهو يغتسلُ، وفاطمة تسترُه، فسلَّمتُ‏.‏ وذكرت الحديث‏.‏ (4)
 فصل‏:‏ وأما أهل الذمّة فاختلف أصحابُنا فيهم، فقطعَ الأكثرون بأننه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس هو بحرام، بل هو مكروه، فإن سلَّمُوا هم على مسلم قال في الردّ‏:‏ وعليكم، ولا يزيدُ على هذا‏.‏
وحكى أقضى القضاة الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، لكنْ يقتصرُ المسلِّم على قوله‏:‏ السلام عليك، ولا يذكرُه بلفظ الجمع‏.‏
وحكى الماوردي وجهاً أنه يقول في الردّ عليهم إذا ابتدأوا‏:‏ وعليكم السلام، ولكن لا يقول ورحمة اللَّه، وهذان الوجهان شاذان ومردودان‏.‏
5/627 روينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لاتَبْدأوا اليَهُودَ وَلا النَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذَا لقيتُمْ أحَدَهُمْ في طَريقٍ فاضْطَرُوهُ إلى أضْيَقِهِ‏"‏‏.‏‏(5)
6/628 وروينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتابِ فَقُولُوا‏:‏ وَعَلَيْكُمْ‏"‏‏.‏‏(6)
7/629 وروينا في صحيح البخاري، عن ابن عمرَ رضي اللّه عنهما؛ أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فإنَّمَا يَقُولُ أحَدُهُم‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ‏:‏ وَعَلَيْكَ‏"‏ وفي المسألة أحاديث كثيرة بنحو ما ذكرنا، واللّه أعلم‏.‏
قال أبو سعد المتولي‏:‏ ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلماً فبان كافراً يستحَبّ أن يستردّ سلامَه فيقول له‏:‏ رُدّ عليّ سلامي؛ والغرض من ذلك أن يوحشه ويظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة‏.‏ ورُوي أن ابن عمر رضي اللّه عنهما سلَّم على رجلٍ، فقيل إنه يهودي، فتبعه وقال له‏:‏ ردّ عليّ سلامي(7)
قلت‏:‏ وقد روينا في موطأ مالك ‏(8)‏ رحمه اللّه أن مالكاً سُئل عمّن سلَّم على اليهوديّ أو النصراني هل يستقيله ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فهذا مذهبُه‏.‏ واختاره ابن العربي المالكي‏.‏
قال أبو سعد‏:‏ لو أراد تحية ذميّ فعلَها بغير السلام بأن يقول‏:‏ هداك اللّه، أو أنعم اللّه صباحك‏.‏ قلت‏:‏ هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول‏:‏ صُبِّحْتَ بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبَّحَك اللّه بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك‏.‏ وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودّ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره، واللّه أعلم‏.‏
 فرع ‏:‏ إذا مرّ واحدٌ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفّار، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم‏.‏
8/630 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أُسامةَ بن زيد رضي اللّه عنهما؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ (9)
 فرع ‏:‏ إذا كتب كتاباً إلى مشرك وكتبَ فيه سلاماً أو نحوَه فينبغي أن يكتب‏:‏
9/631 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في حديث أبي سفيان رضي اللّه عنه في قصة هرقل‏:‏
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتبَ‏:‏ ‏"‏من محمدٍ عبدِ اللّه ورسولِه، إلى هرقلَ عظيمِ الرومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدى‏"‏‏.‏‏(10)
 فرع ‏:‏ فيما يقولُ إذا عَادَ ذَميّاً‏.‏ اعلم أن أصحابنا اختلفوا في عيادة الذميّ، فاستحبَّها جماعة ومنعها جماعة؛ وذكر الشاشي الاختلاف ثم قال‏:‏ الصوابُ عندي أن يُقال‏:‏ عيادة الكافر في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة، قلت‏:‏ هذا الذي ذكره الشاشيُّ حسن‏.‏
10/632 فقد روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فمرضَ، فأتاه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم يعودُه، فقعدَ عند رأسه، فقال له‏:‏ ‏"‏أسْلِمْ‏"‏ فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال‏:‏ أطعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرجَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ‏"‏‏.‏(11)
11/633 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن المسيِّب بن حَزْن والد سعيد بن المسيِّب رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا عَمّ‏!‏ قُلْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ‏"‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏ (12)
قلتُ‏:‏ فينبغي لعائد الذميّ أن يرغّبه في الإِسلام، ويبيِّن له محاسنَه، ويحثَّه عليه، ويحرّضه على معاجلته قبل أن يصيرَ إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها‏.‏
فصل‏:‏ وأما المبتدعُ وَمَنْ اقترف ذنباً عظيماً ولم يَتُبْ منه، فينبغي أن لا يسلِّم عليهم ولا يردّ عليهم السلام، كذا قاله البخاري وغيره من العلماء‏.‏ واحتجّ الإمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه في هذه المسألة‏:‏
12/634 بما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في قصة كعب بن مالك رضي اللّه عنه حين تخلَّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له، فقال‏:‏ ونهى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا، قال‏:‏ وكنتُ آتي رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقولُ‏:‏ هل حرّكَ شَفتيه بردّ السلام أم لاقال البخاري‏:‏ وقال عبدُ اللّه بن عمرو‏:‏ لا تسلِّموا على شَرَبَة الخمر‏.‏ (13)‏ قلتُ‏:‏ فإن اضّطُر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم، سلّم عليهم‏.‏ قال الإِمام أبو بكر بن العربي‏:‏ قال العلماء‏:‏ يسلِّم، وينوي أن السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، المعنى‏:‏ اللّه عليكم رقيب‏.‏
 فصل‏:‏ وأما الصبيان فالسنّة أن يسلِّم عليهم‏.‏
13/635 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه‏,‏ أنه مرّ على صبيانٍ فسَّلمَ عليهم وقال‏:‏ كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يفعله‏.‏ وفي رواية لمسلم عنه‏:‏ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم‏.‏ ‏(14)
14/636 وروينا في سنن أبي داود وغيره، بإسناد الصحيحين، عن أنس، أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غلمانٍ يَلعبون فسلَّم عليهم ورويناهُ في كتاب ابن السنيّ وغيره، قال فيه فقال‏:‏ ‏"‏السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا صِبْيانُ‏"‏‏.‏(15)
 بابٌ في آدابٍ ومسائلَ من السَّلام
1/637 روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على المَاشِي، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكثير‏"‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏"‏يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكَثِيرِ‏"‏‏.‏‏(16)
قال أصحابُنا وغيرُهم من العلماء‏:‏ هذا المذكور هو السنّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب، أو الجالس عليهما لم يُكره، صرّح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يُكره‏.‏ ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكونُ هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه، وهذا الأدبُ هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا وَرَدَ على قعود أو قاعد؛ فإن الواردَ يبدأُ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمَّى أقضى القضاة هذا الثاني سنّة، وسمّى الأوّل أدباً وجعلَه دون السنّة في الفضيلة‏.‏
 فصل‏:‏ قال المتولي‏:‏ إذا لقي رجلٌ جماعةً فأراد أن يخصّ طائفة منهم بالسلام كره، لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين، وربما صار سبباً للعداوة‏.‏
 فصل‏:‏ إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فقد ذكرَ أقضى القضاة الماورديّ أن السلام هنا إنما يكونُ لبعض الناس دون بعض‏.‏ قال‏:‏ لأنه لو سلَّم على كلّ مَن لقي لتشاغل به عن كل مهمّ، ولخرج به عن العُرْف‏.‏ قال‏:‏ وإنما يُقصد بهذا السلام أحدُ أمرين‏:‏ إما اكتساب ودّ، وإما استدفاع مكروه‏.‏
 فصل‏:‏ قال المتولّي‏:‏ إذا سلَّمتْ جماعةٌ على رجل فقال‏:‏ وعليكم السلام، وقصد الردّ على جميعهم سقط عنه فرضُ الردّ في حقّ جميعهم، كما لو صلَّى على جنائزَ دفعةً واحدةً فإنه يُسقط فرضَ الصلاة على الجميع‏.‏
 فصل‏:‏ قال الماوردي‏:‏ إذا دخل إنسانٌ على جماعة قليلة يعمُّهم سلامٌ واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يردّ منهم واحدٌ، فمن زاد منهم فهو أدب‏.‏ قال‏:‏ فإن كان جمعاً لا ينتشرُ فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل؛ فسنّة السلام أن يبتدىء به الداخل في أوّل دخوله إذا شاهدَ القومَ ويكون مؤدياً سنّة السلام في حقّ جميع مَن سمعه، ويدخلُ في فرض كفاية الردّ جميعُ مَن سمعه، فإن أرادَ الجلوس فيهم سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدَهم ممّن لم يسمع سلامه المتقدّم ففيه وجهان لأصحابنا‏:‏ أحدُهما أن سنّة السلام عليهم قد حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان أدَباً، وعلى هذا أيُّ أهل المسجد ردّ عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم‏.‏ والوجه الثاني أن سنّة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض ردّ السلام المتقدم عن الأوائل بردّ الأواخر‏.‏
 فصل‏:‏ ويستحبّ إذا دخل بيته أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ‏.‏ وقد قدَّمنا ‏(17)‏ في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته‏.‏ وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد يُستحبّ أن يُسلِّم وأن يقول‏:‏ السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ‏.‏
 فصل‏:‏ إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم‏.‏
2/638 فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الجيدة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فإذَا أَرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولى بأحَقّ مِنَ الآخِرَةِ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ ‏(18)
قلت‏:‏ ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة ردّ السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإِمامان‏:‏ القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي‏:‏ جرتْ عادةُ بعض الناس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاءٌ يُستحبّ جوابه ولا يجب؛ لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامُهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي - الأخير من أصحابنا - وقال‏:‏ هذا فاسد، لأن السَّلامَ سنّةٌ عند الانصراف كما هو سنّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب‏.‏
 فصل‏:‏ إذا مرّ على واحد أو أكثر وغلبَ على ظنه أنه إذا سلَّم لا يردّ عليه، إما لتكبّر الممرور عليه، وإما لإِهماله المارّ أو السلام، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يُسلِّم ولا يتركه لهذا الظنّ، فإنّ السلامَ مأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارّ أن يُسلّم ولم يؤمر بأن يحصل الردّ مع أن الممرور عليه قد يُخطىء الظنّ فيه ويردّ‏.‏ وأما قول مَن لا تحقيق عنده‏:‏ إن سلامَ المارّ سبب لحصول الإِثم في حقّ الممرور عليه فهو جهالة ظاهرة وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على مَن فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه وتعريفنا له قبحه يكون سبباً لإِثمه إذا لم يقلع عنه، ولا شكّ في أنُّا لا نترك الإِنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، واللّه أعلم‏.‏
ويُستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجّه عليه الردّ بشروطه فلم يرد؛ أن يحلِّله من ذلك فيقول‏؟‏ أبرأته من حقّي في ردّ السلام، أو جعلتُه في حِلٍّ منه ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حقّ هذا الآدمي، واللّه أعلم‏.‏
3/639 وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال‏:‏
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَيْسَ مِنَّا‏"‏‏.‏
ويُستحبّ لمن سلَّم على إنسان فلم يرد عليه أن يقول له بعبارة لطيفة‏:‏ ردُّ السلام واجبٌ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقطَ عنك الفرضُ، واللّه أعلم‏.‏
باب الاستئذان
1/640 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ‏"‏‏.
ورويناه في الصحيحين أيضاً، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه وغيره، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ (19)
2/641 وروينا في صحيحيهما، عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ‏"‏‏.
وروينا الاستئذان ثلاثاً من جهات كثيرة‏.‏ والسنّة أن يُسلِّم ثم يستأذن فيقوم عند الباب بحيث لا ينظرُ إلى مَن في داخله، ثم يقول‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ فإن لم يجبْه أحدٌ قال ذلك ثانياً وثالثاً، فإن لم يجبْه أحدٌ انصرف‏.‏ (20)
3/642 وروينا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح، عن ربعيّ بن حِراش، بكسر الحاء المهملة وآخره شين معجمة، التابعي الجليل، قال‏:‏ حدّثنا رجل من بني عامر استأذن على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو في بيت، فقال‏:‏ أألجُ‏؟‏ فقالَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخادمه‏:‏ ‏"‏اخْرُجْ إلى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ‏؟‏‏"‏ فسمعه الرجلُ فقال‏:‏ السلام عليكم، أأدخلُ‏؟‏ فأذنَ له النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فدخلَ‏.‏ (21)
4/643 وروينا في سنن أبي داود والترمذي، عن كَلَدَة بن الحَنْبل الصحابي رضي اللّه عنه، قال‏:‏ أتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فدخلتُ عليه ولم أسلِّم، فقالَ النبيُّ‏:‏ ‏"‏ارْجِعْ فَقُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ‏؟‏‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (22)‏‏)‏قلت‏:‏ كَلَدة بفتح الكاف واللام‏.‏ والحَنْبل بفتح الحاء المهملة وبعدها نون ساكنة ثم باء موحدة ثم لام‏.‏
وهذا الذي ذكرناه من تقديم السلام على الاستئذان هو الصحيح‏.‏ وذكر الماوردي فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها هذا‏.‏ والثاني تقديم الاستئذان على السلام، والثالث وهو اختياره، إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدَّم السلام، وإن لم تقع عليه عينه قدَّم الاستئذان‏.‏ وإذا استأذن ثلاثاً فلم يُؤذن له وظنَّ أنه لم يسمع فهل يزيدُ عليها‏؟‏ حكى الإِمام أبو بكر بن العربيّ المالكي فيه ثلاثة مذاهب‏:‏ أحدُها يعيده‏.‏ والثاني لا يعيده‏.‏ والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعدْه، وإن كان بغيره أعاده؛ قال‏:‏ والأصحُّ أنه لا يعيدُه بحال، وهذا الذي صحَّحه هو الذي تقتضيه السنّة، واللّه أعلم‏.‏
 فصل‏:‏ وينبغي إذا استأذن على إنسان بالسلام أو بدقّ الباب فقيل له‏:‏ مَنْ أنتَ‏؟‏ أن يقول‏:‏ فلانُ بن فلان، أو فلانٌ الفلاني، أو فلانٌ المعروف بكذا، أو ما أشبه ذلك، بحيث يحصل التعريف التامّ به، ويُكره أن يقتصر على قوله أنا، أو الخادم، أو بعض الغلمان، أو بعض المحبّين، وما أشبه ذلك‏.‏
5/644 روينا في صحيحي البخاري ومسلم في حديث الإِسراء المشهور، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثُمَّ صَعِدَ بي جِبْرِيلُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جِبْرِيلُ، قيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءِ الثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ وَسائِرِهنَّ، وَيُقالُ في بابِ كُلِّ سمَاءٍ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ جبْرِيلُ‏"‏‏.‏(23)
6/645 وروينا في صحيحيهما، حديثَ أبي موسى لما جلسَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم على بئر البستان؛ جاء أبو بكر فاستأذن، فقال‏:‏ مَنْ‏؟‏ قال‏:‏ أبو بكر، ثم جاء عمر فاستأذن، فقال‏:‏ مَن‏؟‏ قال‏:‏ عمر، ثم عثمان كذلك‏.‏ (24)
7/646 وروينا في صحيحيهما أيضاً، عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏ أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فدققتُ البابَ، فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ ذَا‏؟‏ فَقلتُ‏:‏ أنا، فقال‏:‏ أنَا أنَا‏"‏ كأنه كرهها‏.‏ (25)
 فصل‏:‏ ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف إذا لم يعرفه المخاطب بغيره، وإن كان فيه صورة تبجيل له بأن يكنّي نفسه، أو يقول أنا المفتي فلان، أو القاضي، أو الشيخ فلان، أو ما أشبه ذلك‏.‏
8/647 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها، واسمها فاختة على المشهور، وقيل فاطمة، وقيل هند، قالت‏:‏ أتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمةُ تستُره، فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذِهِ‏؟‏‏"‏ فقلتُ‏:‏ أنا أُمّ هانىء‏.‏ (26)
9/648 وروينا في صحيحيهما، عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه، واسمه جُندب، وقيل بُرَيْرٌ بضمّ الباء تصغير برّ، قال‏:‏ خرجتُ ليلةً من الليالي فإذا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشي وحدَه، فجعلتُ أمشي في ظلّ القمر، فالتفتَ فرآني فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ أبو ذرّ‏.‏ ‏(27)
10/649 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي قتادة الحارث بن رِبعي رضي اللّه عنه في حديث الميضأة المشتمل على معجزات كثيرة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى جمل من فنون العلوم، قال فيه أبو قتادة‏:‏ فرفع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم رأسه فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏"‏‏(28)‏ قلت‏:‏ أبو قتادة‏.‏ قلت‏:‏ ونظائر هذا كثيرة، وسببه الحاجة، وعدم إرادة الافتخار‏.‏
ويقرب من هذا‏:‏
11/650 ما رويناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، واسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصحّ، قال‏:‏
قلتُ‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ ادعُ اللّه أن يهديَ أُمّ أبي هريرة‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديثَ إلى أن قال فرجعتُ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ قد استجاب اللّه دعوتك وهدى أُمّ أبي هريرة‏.‏ (29)
اقرأ بعده..........